رُجُوعُ حَلِيمَةَ بِهِ ﷺ إلَى أُمِّهِ الحَنُونِ آمَنَةَ:
بعد حادثة شقِّ صدره الشريف ﷺ خَشِيت حليمةُ السعدية وزوجُها عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فقرَّرا إرجاعه إلى أمِّه، وكان قد بلغ ﷺ من العُمر خمسَ سنوات.
تقول حليمة: وَقَالَ لِي أَبُوهُ – تقصد زوجها الحارث -: يَا حَلِيمَةُ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ، فَأَلْحِقِيهِ بِأَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ بِهِ.
قَالَتْ: فَاحْتَمَلْنَاهُ، فَقَدِمْنَا بِهِ على أمِّه، فَقَالَت آمنة لحليمةَ: مَا أَقْدَمَكَ بِهِ يَا ظِئْرُ – الظِّئْر: المرأة المرضعة لغير ولدها - وَقَدْ كُنْتِ حَرِيصَةً عَلَيْهِ، وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَكَ؟
قَالَتْ حليمة: فَقُلْتُ: قَدْ بَلَغَ اللَّهُ بِابْنِي، وَقَضَيْتُ الَّذِي عَلَيَّ، وَتَخَوَّفْتُ الْأَحْدَاثَ عَلَيْهِ، فَأَدَّيْتُهُ إلَيْكَ كَمَا تُحِبِّينَ.
قَالَتْ آمنةُ: مَا هَذَا شَأْنُكَ، فَاصْدُقِينِي خَبَرَكِ.
قَالَتْ حليمة: فَلَمْ تَدَعْنِي حَتَّى أَخْبَرْتُهَا.
قَالَتْ آمنةُ: أَفَتَخَوَّفَتْ عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ؟
قَالَتْ حليمة: نَعَمْ.
قَالَتْ آمنة: كَلَّا، وَاَللهِ مَا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَإِنَّ لِبُنَيَّ لَشَأْنًا، أَفَلَا أُخْبِرُكِ خَبَرَهُ؟
قَالَتْ حليمة: بَلَى.
قَالَتْ آمنةُ: رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ، أَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَ لِي قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، ثُمَّ حملت بِهِ، فواللهِ مَا رَأَيْتُ مِنْ حَمْلٍ قَطُّ كَانَ أَخَفَّ وَلَا أَيْسَرَ مِنْهُ، وَوَقَعَ حِينَ وَلَدْتُهُ وَإِنَّهُ لَوَاضِعٌ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ، رَافِعٌ رَأَسَهُ إلَى السَّمَاءِ، دَعِيهِ عَنْكَ وَانْطَلِقِي رَاشِدَةً.
هل أسلمت حليمة السعدية؟
اختلف العلماء في إسلامها، قال ابن القيم في "زاد المعاد" (1/81): "واختُلف في إسلام أبوَيْه - يعني: النبيَّ ﷺ - من الرضاعة، فالله أعلم".
وقد جزم كثير من الحفَّاظ بإسلامها، وعَدُّوها من الصحابة، فقد ذكرها ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة" (13/ 289)، وابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/85)، وقال ابن الجوزيِّ في "صفة الصفوة" (1/ 26): "قَدِمت عليه بعد النُّبوَّة فأسلمت وبايعت، وأسلم زوجها الحارثُ بنُ عبد العُزَّى"، وفي "الأعلام" للزِّركلي (2/ 271): "وقَدِمت مع زوجها بعد النبوَّة فأسلما".
إكرام حليمة من النبيِّ ﷺ:
لقد حلَّت بركة النبيِّ ﷺ على حليمةَ وهو صغير، وحلَّت عليها وعلى قومها بعد النبوَّة؛ قال ابن كثير في "السيرة النبوية" (1/233): "بركتُه ﷺ حلَّت على حليمةَ السعدية وأهلِها وهو صغير، ثم عادت على هوازنَ بكمالهم فواضلُه حين أسرهم بعد وقعتهم، وذلك بعد فتح مكَّةَ بشهر، فمَنُّوا إليه برَضاعه، فأعتقهم، وتحنَّن عليهم، وأحسن إليهم".
وروى البيهقيُّ (18536) بسند حسن عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِحُنَيْنٍ، فَلَمَّا أَصَابَ مِنْ هَوَازِنَ مَا أَصَابَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَسَبَايَاهُمْ، أَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَنَا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلاَءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ.
وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا فِى الْحَظَائِرِ مِنَ السَّبَايَا خَالاَتُكَ وَعَمَّاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللاَّتِى كُنَّ يَكْفُلْنَكَ، وَذَكَرَ كَلاَمًا وَأَبْيَاتًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "أَمَّا مَا كَانَ لِى وَلِبَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَهُوَ لَكُمْ، وَإِذَا أَنَا صَلَّيْتُ بِالنَّاسِ فَقُومُوا وَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا، سَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ"، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، قَامُوا فَقَالُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ"، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَقَالَتِ الأَنْصَارُ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.
وسيأتي أنه ﷺ أطلق لهم الذُّرِّية، وكانت ستَّةَ آلاف، ما بين صبيٍّ وامرأة، وأعطاهم أنعامًا وأناسيَّ كثيرًا، فكان قيمة ما أُطلِق لهم يومئذ خمسَمِائةِ ألفِ ألفِ درهم؛ فهذا كلُّه من بركته العاجلة في الدنيا؛ بسبب رضاعه وحضانته ﷺ؛ فكيف ببركته على من اتَّبَعه في الدار الآخرة؟!