معرفة النبي ﷺ بما ينتظره في دعوته

بعد ما حدث بين النبيِّ ﷺ وجبريلَ – عليه السلام – في أول لقاء بينهما وأول وحيٍ يتلقَّاه النبيُّ ﷺ، رجع إلى بيته فدخل على زوجته السيدة خديجة - رضي الله عنها - وفؤاده يرجف، فحكى لها ما حدث معه في الغار، وكان يظهر عليه الفَزَع والهلَع، وقال لها: "يا خديجةُ، لقد خشيت على نفسي"، فردَّت عليه بما يُريح فؤاده، ويهدِّئ من رَوعه، مما تَعلَمه من حُسن خُلقه، قالت: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتَكسِب المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق"، فمن كان بمثل هذه الأخلاق، فهل يُخزيه الله؟ كلا.

السيدة عائشة تحكي موقف السيدة خديجة العظيم:

تحكي السيدة عائشة الموقف في الحديث الذي أخرجه البخاريُّ (3) ومسلم (160) عن عائشةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قالت: "... فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" - أي: غَطُّونِي بالثياب، ولُفُّونِي بها - فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ – أي: الفَزَعُ - فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي"، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: "كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ".

ومعنى (زَمِّلُونِي)؛ أي: غَطُّونِي بالثياب، ولُفُّونِي بها. وذلك لشدَّةِ ما لَحِقَهُ من هَوْلِ الأمر، وجرَتِ العادة بسُكُونِ الرِّعْدَةِ بالتَّلْفِيفِ.

والكَلُّ: أصله الثِّقَلُ، ومنه قول اللَّه تَعَالَى: ﴿{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}﴾ [النحل: 76]، ويدخُلُ في حَمْلِ الكَلِّ الإنفاقُ على الضَّعِيفِ، واليَتِيمِ، والعِيَالِ، وغير ذلك.

(وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ)؛ أي: تُعْطِي الناسَ ما لا يَجِدُونَهُ عندَ غيركَ مِنْ نفائسِ الفَوَائدِ، ومكارمِ الأخلاق، أو تَكْسِب المالَ العظيمَ الذي يَعْجِزُ عنه غيرُك، ثم تَجُود به في وجُوهِ الخيرِ وأبواب المكارم.

والنَّوَائِبُ: جمعُ ناِئبَةٍ، وهي الحَادِثَةُ، وإنما قَالَتْ: نوائِب الحقّ؛ لأن النائبةَ قد تكون في الخير، وقد تكونُ في الشّرِّ.

ذَهاب النبيِّ ﷺ والسيدة خديجة إلى ورقة:

كان من كمال عقل السيدة خديجة – رضي الله عنها – أنها ذهبت إلى ورقةَ بنِ نَوْفلٍ دون غيره، فلم تذهب إلى كاهن أو خادم للأصنام، أو إلى حكيم من حكماء العرب المشهورين؛ بل اختارت رجلًا كان قد تنصَّر عنده علم من الأديان السابقة.

النبيُّ والسيدة خديجة ولقاء ورقة:

انطلقت السيدة خديجة – رضي الله عنها – بالنبيِّ ﷺ إلى ورقة، وكان شيخًا كبيرًا قد تنصَّر في الجاهلية، وكان مثل علماء أهل الكتاب في تلك الفترة يعلم أن نبيًّا سوف يظهر في هذا الزمان، وكان ينتظره، فلما سمع ما حدث بغار حراء، وهو يعرف النبيَّ ﷺ وأخلاقه، قال مباشرة دون تردُّد: هذا الناموس -يقصد جبريل عليه السلام - الذي أنزله الله - عز وجل - على موسى، وأخبره أنه نبيُّ هذه الأمة، ومن قوَّة علمه أظهر نيَّته الصادقة بالصبر على البلاء الذي سيحدث إن أدركه، فأقرَّ بنبوَّة النبيِّ ﷺ ونوى نُصرته، إلا أنه مات، ولم يُدرِك ذلك.

أخرج البخاريُّ (3) ومسلم (160) عن عائشةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قالت: "فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟»، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ – أي: لم يلبث - وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْي".

والناموس: أراد به جبريل - عليه السلام - لأن اللَّه تعالى خصَّه بالوحي والغَيب اللذين لا يطَّلع عليهما غيره.

والجَذَعُ: هو الصَّغيرُ منَ البَهائمِ، كأنه تمنَّى أن يكون عِنْدَ ظُهور الدُّعاء إلى الإسلام شَابًّا ليكونَ أمكَنَ لنَصْرِهِ.

وقد استبعدَ النبيُّ ﷺ أن يُخْرِجُوهُ؛ لأنه لم يكنْ فيه سببٌ يقتضِي الإخراجَ؛ لِما اشتملَ عليه مِنْ مَكارمِ الأخلاقِ التي تقدَّم من خديجةَ وصْفُهَا. ويحتمل أن يكون انزعاجُه كان مِنْ جِهةِ خَشْيَةِ فَواتِ ما أمَّلهُ من إيمانِ قومهِ باللَّه، وإنقاذِهِمْ من ضُرِّ الشِّرْكِ، وأدْنَاسِ الجاهليةِ، ومنْ عذابِ الآخرةِ، وليتمَّ لهُ المرادُ من إرساله إليهم، ويحتملُ أن يكونَ انْزَعَجَ منَ الأمْرَيْنِ مَعًا.


للاستزادة


  1. السيرة النبوية لابن كثير (1/ 397).
  2. الرحيق المختوم (ص: 57).

اخترنا لكم


أطلس الدعوة دعوة النبي ﷺ من يعيشون في بيته
دعوة النبي ﷺ من يعيشون في بيته

بدأ النبي ﷺ بدعوة أهل بيته، فأسلمت زوجه خديجة – رضي الله عنها – وهي أول الناس إسلامًا على الإطلاق، وأسلم بنات النبي ﷺ، ثم أخذ النبي ﷺ يدعو أقرب الأقرب (...)

أطلس الدعوة بدء الدعوة السرية
بدء الدعوة السرية

بعد نزول قوله تعالى: ﴿{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ}﴾ [المدثر: 1، 2] على النبيِّ ﷺ، قام يدعو إلى الله وإلى الإسلام سِرًّا، وكان طبَعي (...)

أطلس الدعوة نزول الوحي وتنبيه النبي ﷺ على عظم مهمته
نزول الوحي وتنبيه النبي ﷺ على عظم مهمته

لَمَّا بلغت سنُّ النبيِّ ﷺ أَرْبَعِينَ سنةً، أَشْرَقَ عَلَيْهِ نُورُ النُّبُوَّةِ، وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرِسَالَتِهِ، وَبَعَثَهُ إِلَى خِلْق (...)

أطلس الدعوة الدعوة السرية
الدعوة السرية

قام النبيُّ ﷺ بأمر ربِّه مُنْذُ أَنْ تَلَقَّى قوله تعالى: ﴿{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} ﴾ [المدثر: 1، 2]، فقام يدعو النَّاسَ إلى عِب (...)