عِصْمةُ النبيِّ ﷺ قبل البعثة

لقد عصم الله تعالى نبيَّه ﷺ قبل بعثته، وكان ﷺ مَصُونًا عَمَّا يُسْتَقْبَحُ، فلم يشرب خمرًا قطُّ، ولا اقترب من فاحشة، ولا انغمس فِيمَا كَانَ يَنْغَمِسُ فيهِ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ حِينَئِذٍ مِنَ اللَّهْوِ، واللَّعِبِ، والمَيْسِرِ، ومُصَاحبَةِ الأشْرَارِ، عَلَى ما كَانَ عَلَيْهِ مِنْ فتوَّةٍ وشَبَابٍ، وشَرَفٍ ونَسَبٍ، وعِزَّةِ قَبِيلَةٍ، وكَمَالٍ، وجَمَالٍ، وغَيْرِهَا مِنْ وَسَائِلِ الإغْرَاءِ، وقد كان النبيُّ ﷺ يذكر ذلك، ويَعُدُّهُ من نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عليه، وعِصْمَتِهِ لَهُ.

عِصْمةُ النبيِّ ﷺ وكمال خُلقه قبل البعثة:

"والذي لا ريبَ فيه أنه ﷺ كان معصومًا قبل الوحيِ وبعدَه، وقبل التشريع، من الزِّنى قطعًا، ومن الخيانة، والغَدْر، والكذِب، والسُّكْر، والسجود لوَثَن، والاستقسام بالأزلام، ومن الرذائل، والسَّفَه، وبَذَاء اللسان، وكشف العَورة، فلم يكن يطوف عُرْيانًا، ولا كان يقف يوم عرفةَ مع قومه بمزدلفةَ؛ بل كان يقف بعرفةَ. وبكلِّ حال، لو بدا منه شيء من ذلك، لَما كان عليه تَبِعة؛ لأنه كان لا يَعرِف؛ ولكن رُتْبة الكمال تأبى وقوع ذلك منه ﷺ" .

وَقَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد أَبُو شَهبة: "لَقَدْ قَرَأْنَا سِيَرَ الحُكَمَاءِ والفَلاسِفَةِ، والعَبَاقِرَةِ، والمُصْلِحِينَ، وأَصْحَابَ النِّحَلِ، والمَذَاهِبِ قَدِيمًا وحَدِيثًا، فمَا وَجَدْنَا حَيَاةَ أحَدٍ مِنْهُمْ تَخْلُو مِنَ الشُّذُوذِ عنِ الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، والتَّفْكِيرِ الصَّحِيحِ، والخُلُقِ الرَّضِيِّ، إمَّا مِنْ نَاحِيَةِ العَقِيدَةِ والتَّفْكِيرِ، وإمَّا مِنْ نَاحِيَةِ السُّلُوكِ والأخْلَاقِ، وغَايَةُ مَا يُقَالُ في أسْمَاهُمْ وأزْكَاهُمْ: كَفَى المَرْءَ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهُ! حَاشَا الأنْبِيَاءَ والمُرْسَلِينَ، فَقَدْ نَشَّأَهُمُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وتَعَالَى - عَلَى أكْمَلِ الأَحْوَالِ، وعَظِيمِ الأخْلَاقِ، وقدْ بَلَغَ الذِّرْوَةَ في الكَمَالِ خَاتَمُهُمْ وسَيِّدُ البَشَرِ كُلِّهِمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ" .

أخرج ابن حبان (6272) والحاكم في المستدرك (7693) بسند حسن عَنْ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "مَا هَمَمْتُ بِقَبِيحٍ مِمَّا يَهُمُّ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ، كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا. قُلْتُ لَيْلَةً لِفَتًى كَانَ مَعِي مِنْ قُرَيْشٍ بِأَعْلَى مَكَّةَ فِي غَنَمٍ لِأَهْلِنَا نَرْعَاهَا: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي حَتَّى أَسْمُرَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ كَمَا يَسْمُرُ الْفِتْيَانُ. قَالَ: نَعَمْ، فَخَرَجْتُ، فَلَمَّا جِئْتُ أَدْنَى دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ غِنَاءً، وَصَوْتَ دُفُوفٍ، وَمَزَامِيرَ. قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: فُلَانٌ تَزَوَّجَ فُلَانَةً لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَهَوْتُ بِذَلِكَ الْغِنَاءِ، وَبِذَلِكَ الصَّوْتِ حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَنِمْتُ، فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، ثُمَّ فَعَلْتُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَخَرَجْتُ، فَسَمِعْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقِيلَ لِي مِثْلَ مَا قِيلَ لِي، فَسَمِعْتُ كَمَا سَمِعْتُ، حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ لِي: مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ شَيْئًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَوَاللَّهِ، مَا هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بِسُوءٍ مِمَّا يَعْمَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِنُبُوَّتِهِ".

وقوف النبيِّ ﷺ بِعَرَفَةَ مخالفًا لقريش:

كانت قريش تسمَّى (الحُمْس) جمع أَحْمُسَ، وهو الشديد؛ بسبب تشدُّدها فيما كانت عليه من تقاليدَ دينيةٍ في الجاهلية، وكانت قُريش لا تَخرُج من الحرم يومَ عرفةَ، وعرفةُ ليست من الحرَم، وَكَانَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقِفُ مَعَ النَّاسِ بَعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ﷺ، ولا يَصْنَعُ ما تَصْنَعُ قُرَيْشٌ مِنْ عَدَمِ وُقُوفِهَا مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ، ووقوفها بِالمُزْدَلِفَةِ.

أخرج البخاريُّ (1664) ومسلم (1220) عن جبيْرِ بنِ مُطْعِمٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: "هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَا هُنَا؟".


للاستزادة


  1. سير أعلام النبلاء (1/ 131).
  2. اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (1/ 142).

اخترنا لكم


إرهاصات النبوة حُكم النبيِّ ﷺ في وضع الحجر الأسود
حُكم النبيِّ ﷺ في وضع الحجر الأسود

الكعبة المشرَّفة هي أَوَّلُ بَيْتٍ بُنِيَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي الأَرْضِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ (...)

إرهاصات النبوة مشاركة النبيِّ ﷺ في بناء الكعبة
مشاركة النبيِّ ﷺ في بناء الكعبة

رُجُوعُ حَلِيمَةَ بِهِ ﷺ إلَى أُمِّهِ الحَنُونِ آمَنَةَ:بعد حادثة شقِّ صدره الشريف ﷺ خَشِيت حليمةُ السعدية وزوجُها عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فقرَّرا إرجاع (...)

إرهاصات النبوة الاستدلال بحُسن خُلقه ﷺ على نبوَّته
الاستدلال بحُسن خُلقه ﷺ على نبوَّته

كان النبيُّ ﷺ مجبولًا على الأخلاق الحميدة في أصل خِلْقَتِه، وَأَوَّلِ فِطْرَتِهِ، بِجُودٍ إلَهِيٍّ، وخُصُوصِيَّهٍ رَبَّانِيَّةٍ،فكان ﷺ وَصُولًا للرّ (...)

إرهاصات النبوة حياة النبيِّ ﷺ الفاضلة قبل البعثة
حياة النبيِّ ﷺ الفاضلة قبل البعثة

لقد صنع الله تعالى رسوله ﷺ على عَينه، فظَلَّتْ حياته ﷺ قبل البعثة حياةً فاضلة شريفة، لم تُعرَف له فيها (...)