القسَم دائمًا يكون بمعظَّم لدى الْمُقسِم، وإذا أقسم الله تعالى بشيء، فإن هذا القسم يكون تعظيمًا لهذا الشيء وتشريفًا له من قِبَل الله تعالى، وقد أقسم الله تعالى في كتابه الكريم بحياة النبيِّ ﷺ؛ فقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ، أَقْسَمَ تَعَالَى بِحَيَاةِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَفِي هَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ، وَمَقَامٌ رَفِيعٌ، وَجَاهٌ عَرِيضٌ.
إقسام الله تعالى بحياة النبيِّ ﷺ:
قال تعالى: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: 72].
قال ابن عباس: "مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا ذَرَأَ وَمَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ" رواه البيهقيُّ في دلائله، وأبو نُعيم، وأبو يعلى.
وقال القاضي عياض في الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 86): "اتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذَا أَنَّهُ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ - جَلَّ جَلَالُهُ - بِمُدَّةِ حَيَاةِ مُحَمَّدٍ ﷺ... وَمَعْنَاهُ: وَبَقَائِكَ يَا مُحَمَّدُ. وَقِيلَ: وَعَيْشِكَ. وَقِيلَ: وَحَيَاتِكَ. وهذه نهاية التعظيم وغاية البِرِّ والتشريف".
وقال ابن العربيِّ في أحكام القرآن (3/ 89): "قَوْلُهُ: {لَعَمْرُك إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} أَرَادَ بِهِ الْحَيَاةَ وَالْعَيْشَ، يُقَالُ: عُمْرٌ وَعَمْرٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ، وَقَالُوا: إنَّ أَصْلَهَا الضَّمُّ، وَلَكِنَّهَا فُتِحَتْ فِي الْقَسَمِ خَاصَّةً لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ؛ وَالِاسْتِعْمَالُ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الْقَسَمِ، فَأَمَّا الْقَسَمُ فَهُوَ بَعْضُ الِاسْتِعْمَالِ؛ فَلِذَلِكَ صَارَا لُغَتَيْنِ. فَتَدَبَّرُوا هَذَا".
وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ في تفسير القرطبي (10/ 39): "مَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ الْبَرِيَّةِ عِنْدَهُ".
وقال ابن العربيِّ في أحكام القرآن (3/ 89): "قَالَ الْمُفَسِّرُونَ بِأَجْمَعِهِمْ: أَقْسَمَ اللَّهُ هُنَا بِحَيَاةِ مُحَمَّدٍ ﷺ تَشْرِيفًا لَهُ، أَنَّ قَوْمَهُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وَفِي حَيْرَتِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. قَالُوا: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "مَا خَلَقَ اللَّهُ وَمَا ذَرَأَ وَلَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَمَا سَمِعْت اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ". وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ، وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي أَخْرَجَهُمْ عَنْ ذِكْرِ لُوطٍ إلَى ذِكْرِ مُحَمَّدٍ، وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ بِحَيَاةِ لُوطٍ، وَيَبْلُغَ بِهِ مِنَ التَّشْرِيفِ مَا شَاءَ؛ فَكُلُّ مَا يُعْطِي اللَّهُ لِلُوطٍ مِنْ فَضْلٍ وَيُؤْتِيه مِنْ شَرَفٍ فَلِمُحَمَّدٍ ضِعْفَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. أَوَلَا تَرَاهُ قَدْ أَعْطَى لِإِبْرَاهِيمَ الْخُلَّةَ، وَلِمُوسَى التَّكْلِيمَ، وَأَعْطَى ذَلِكَ لِمُحَمَّدٍ؟ فَإِذَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِحَيَاةِ لُوطٍ، فَحَيَاةُ مُحَمَّدٍ أَرْفَعُ، وَلَا يُخْرَجُ مِنْ كَلَامٍ إلَى كَلَامٍ آخَرَ غَيْرِهِ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ".
القسم بالنبيِّ ﷺ:
إن الله تعالى يُقسِم بما يشاء؛ تعظيمًا وتشريفًا لذلك الشيء، ولا يجوز للمسلم أن يُقسم بغير الله تعالى؛ قال ﷺ: «من كان حالفًا فليحلفْ بالله أو ليَصمُت» متفق عليه، وقال ﷺ: «من حلف بغير الله، فقد أشرك» رواه أحمد وأبو داود والترمذيُّ، فليس لأحد أن يُقسِم بالمخلوقات البتَّةَ.
قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (3/ 222، 223): "إذا حلف الرجل يمينًا من الأيمان، فالأيمان ثلاثة أقسام؛ أحدها: ما ليس من أيمان المسلمين، وهو الحلف بالمخلوقات؛ كالكعبة، والملائكة، والمشايخ، والملوك والآباء وتُربتهم، ونحو ذلك، فهذه يمين غير منعقدة، ولا كفَّارةَ فيها باتِّفاق العلماء؛ بل هي منهيٌّ عنها باتِّفاق أهل العلم، والنهيُ نهيُ تحريم في أصحِّ قولَيْهم. ففي الصحيح عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت»، وقال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» ، وفي السنن عنه أنه قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك»".
قال ابن العربيِّ في أحكام القرآن (3/ 89): "قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ أَقْسَمَ بِالنَّبِيِّ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ أَقْسَمَ بِاَللَّهِ. وَقَدَّمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ لِخَلْقِهِ أَنْ يُقْسِمُوا إلَّا بِهِ لِقَوْلِهِ: ((مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت))، فَإِنْ أَقْسَمَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ آثِمٌ، أَوْ قَدْ أَتَى مَكْرُوهًا عَلَى قَدْرِ دَرَجَاتِ الْقَسَمِ وَحَالِهِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمُؤَنَّثِينَ مِنْهُمْ يُقْسِمُونَ بِحَيَاتِك وَبِعَيْشِك، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ أَقْسَمَ بِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، فَذَلِكَ بَيَانٌ لِشَرَفِ الْمَنْزِلَةِ وَشَرَفِ الْمَكَانَةِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ".