ما جرى على أصحاب الفيل عام مولده ﷺ

وَقَعَ حَادِثُ الفيل في شَهْرِ المُحَرَّمِ قَبْلَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ ﷺ بِخَمْسِينَ أَوْ بِخَمْسٍ وخَمْسِينَ يَوْمًا، وَكَانَ ذَلِكَ آيَةً مِنَ اللَّهِ، ومُقَدِّمَةً لِبِعْثَةِ نَبِيٍّ يُبْعَثُ فِي مَكَّةَ ويُطَهِّرُ الكَعْبَةَ مِنَ الأوْثَانِ، ويُعِيدُ إلَيْهَا مَا كَانَ لَهَا مِنْ رِفْعَةٍ وشَأْنٍ، وتَكُونُ لِدِينِهِ صِلَةٌ عَمِيقَةٌ دَائِمَةٌ بهَذَا البَيْتِ. واسْتَعْظَمَ العَرَبُ هَذَا الحَادِثَ فَأرَّخُوا بِهِ، وقَالُوا: وَقَعَ هَذَا فِي عَامِ الفِيلِ، ووُلِدَ فُلَانُ في عَامِ الفِيلِ، ووَقَعَ هَذَا بَعْدَ عَامِ الفِيلِ بِكَذَا مِنَ السِّنِينَ.

أَبْرَهَةُ الأَشْرَم يبني كنيسة:

بنى أَبْرَهَةُ الأَشْرَم - عَامِلُ النَّجَاشِيِّ عَلَى اليَمَنِ - كَنِيسَةً عَظِيمَةً بِصَنْعَاءَ، لَمْ يُرَ مِثْلُهَا في زَمَانِهَا، سَمَّاهَا (القُلَّيْسَ).

قال الإمام السهيليُّ في الرَّوْض الأُنُف (1/ 112): "وكان أبرَهةُ قد اسْتَذَلَّ أهلَ اليَمَنِ في بُنْيَانِ هذهِ الكَنِيسَةِ الخَسِيسَة، وكان ينقلُ إليها العدد من الرُّخام المُجَزَّع، والحِجَارة المَنْقوشة بالذَّهب من قَصْرِ بلقيس صاحِبَةِ سليمان عليهِ السَّلامُ، ونَصَبَ فيها صُلْبانًا من الذَّهب والفضة، وكان أراد أن يرفع في بِنَائِها حتى يُشرف منها على عَدَن، وكان حكمه في العامل إذا طَلَعَتْ عليه الشمس ولم يُكمل عَمَلَهُ أن يَقْطع يَدَهُ".

ثُمَّ كَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ: إنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ أيُّهَا المَلِكُ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِكٍ كَانَ قَبْلَكَ، ولَسْتُ بِمُنْتَهٍ حتَّى أَصْرِفَ إلَيْهَا حَجَّ العَرَبِ. فلَمَّا تَحَدَّثَتِ العَرَبُ بِكِتَابِ أبْرَهَةَ ذَلِكَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، سَمِعَ رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ فَعَزَّ عَلَيْهِ الأَمْرُ، وهُوَ مِنَ العَرَبِ الذِينَ رَضَعُوا حُبَّ الكَعْبَةِ وتَعْظِيمهَا، لَا يَعْدِلُونَ بِهَا بَيْتًا، وَلَا يَرَوْنَ عَنْهَا بَدِيلًا، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الكَنِيسَةَ فَدَخَلَهَا لَيْلًا فَلَطَّخَ قِبْلَتَهَا بِالعَذِرَةِ وَجَمَعَ جِيَفًا فَأَلْقَاهَا فِيهَا.

قسَم أبرهة بهدم الكعبة:

غَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أبْرَهَةُ، وحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إِلَى البَيْتِ حَتَّى يَهْدِمَهُ، ثُمَّ سَارَ بِجَيْشٍ عَظِيمٍ، وخَرَجَ مَعَهُ بِتِسْعَةِ فِيَلَةٍ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فِيلًا، واخْتَارَ لِنَفْسِهِ فِيلًا مِنْ أَكْبَرِ الفِيَلَةِ، وكَانَ اسْمُهُ "مَحْمُودًا"، وسَمِعَتْ بِذَلِكَ العَرَبُ، فنَزَلَ عَلَيْهِمْ كَالصَّاعِقَةِ، وأَعْظَمُوهُ، ورَأَوْا جِهَادَهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ، حِينَ سَمِعُوا بِأَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الكَعْبَةِ بَيْت اللَّهِ الحَرَامَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ وكَانَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ اليَمَنِ، ومُلُوكِهِمْ يُقَالُ لَهُ: (ذُو نَفَرٍ)، فَدَعَا قَوْمَهُ، وَمَنْ أجَابَهُ مِنْ سَائِرِ العَرَبِ إِلَى حَرْبِ أبْرَهَةَ، وجِهَادِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ الحَرَامِ، ومَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وإخْرَابِهِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فَقَاتَلَهُ، فَهُزِمَ (ذُو نَفَرٍ) وأصْحَابُهُ، وأُخِذَ لَهُ (ذُو نَفَرٍ) فَأُتِيَ بِهِ أَسِيرًا، فَلَمَّا أَرَادَ أبْرَهَةُ قَتْلَهُ قَالَ لَهُ (ذُو نَفَرٍ): أيُّهَا المَلِكُ، لَا تَقْتُلْنِي فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَائِي مَعَكَ خَيْرًا لَكَ مِنْ قَتْلِي، فَتَرَكَهُ مِنَ القَتْلِ وحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ، ثُمَّ مَضَى أبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ لَهُ، حتَّى إذَا كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمٍ عَرَضَ لَهُ (نُفَيْلُ بنُ حَبِيبٍ الخَثْعَمِيُّ) فِي قَبِيلَتَيْ خَثْعَمَ: شَهْرَانَ، ونَاهِسٍ، ومَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَبَائِلِ العَرَبِ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أبْرَهَةُ، وأُخِذَ لَهُ نُفَيْلٌ أسِيرًا، فَأُتِيَ بِهِ إِلَى أبْرَهَةَ، فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ، قَالَ لَهُ نُفَيْلٌ: أيُّهَا المَلِكُ لا تَقْتُلْنِي فَإِنِّي دَلِيلُكَ بِأَرْضِ العَرَبِ، وهَاتَانِ يَدَايَ لَكَ عَلَى قَبِيلَتَيْ خَثْعَمٍ: شَهْرَانَ وَنَاهِسٍ بِالسَّمْع والطَّاعَةِ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، وخَرَجَ بِهِ مَعَهُ يَدُلُّهُ، حتَّى إذَا مَرَّ بالطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بنُ مُعَتِّبٍ الثَّقَفِيُّ فِي رِجَالٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَقَالُوا لَهُ: أيُّهَا المَلِكُ، إِنَّمَا نَحْنُ عَبِيدُكَ سَامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ، لَيْسَ عِنْدَنَا لَكَ خِلَافٌ، ولَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا البَيْتَ الذِي تُرِيدُ -يَعْنُونَ اللَّاتَ، وهُوَ بَيْتٌ لَهُمْ بِالطَّائِفِ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ نَحْوَ تَعْظِيمِ الكَعْبَةِ- إِنَّمَا تُرِيدُ البَيْتَ الذِي بِمَكَّةَ، ونَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ، فَبَعَثُوا مَعَهُ رَجُلًا هُوَ أَبُو رِغَالٍ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى مَكَّة، فَخَرَجَ أبْرَهَةُ، ومَعَهُ الدَّلِيلُ حَتَّى أنْزَلَهُ الْمُغَمَّسَ – وهو مَوضِعٌ قُربَ مكَّةَ، في طَريقِ الطَّائِفِ - وهُنَاكَ

أمَرَ أبْرَهَةُ أصْحَابَهُ بالغَارَةِ عَلَى نَعَمِ النَّاسِ، فبَعَثَ رَجُلًا مِنَ الحَبَشَةِ يُقَالُ لَهُ: (الأَسْوَدُ بنُ مَقْصُودٍ) عَلَى خَيْلٍ لَهُ، حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى مَكَّةَ، فَسَاقَ إِلَيْهِ أَمْوَالَ قُرَيْشٍ، وغَيْرَهُمْ، فأَصَابَ مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ المُطَّلِبِ بنِ هَاشِمٍ جَدِّ النَّبِيِّ ﷺ، وهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وسَيِّدُهَا، فَهَمَّتْ قُرَيْشٌ، وكِنَانَةُ، وهُذَيْلٌ، ومَنْ كَانَ بِذَلِكَ الحَرَمِ بِقِتَالِهِ، ثُمَّ عَرَفُوا أنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ.

إرسال أبرهة إلى عبد المطَّلب:

بَعَثَ أبْرَهَةُ (حُنَاطَةَ الحِمْيَرِيَّ) إِلَى مَكَّةَ، وقَالَ لَهُ: سَلْ عَنْ سَيِّدِ أهْلِ هذَا البَلَدِ وشَرِيفِهَا، ثُمَّ قُلْ لَهُ: إِنَّ المَلِكَ يَقُولُ لَكَ: إنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ؛ إِنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ هَذَا البَيْتِ، فَإنْ لَمْ تَعْرِضُوا لَنَا دُونَهُ بِحَرْبٍ، فَلَا حَاجَةَ لِي فِي دِمَائِكُمْ، فَإنْ هو لَمْ يُرِدْ حَرْبِي فَأْتِنِي بِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ (حُنَاطَةُ) مَكَّةَ، واجْتَمَعَ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ أخْبَرَهُ بِمَا أمَرَهُ بِهِ أبْرَهَةُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ: واللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ، ومَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الحَرَامُ، وبَيْتُ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وحَرَمُهُ، وإنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ، فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ، فَقَالَ حُنَاطَةُ: فَانْطَلِقْ مَعِيَ إِلَيْهِ، فانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ، ومَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ، حتَّى أتَى العَسْكَرَ فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفَرٍ، وكَانَ لَهُ صَدِيقًا، حتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ وهُوَ فِي مَحْبَسِهِ، فقَالَ لَهُ: يَا ذَا نَفَرٍ، هَلْ عِنْدَكَ مِنْ غَنَاءٍ فِيمَا نَزَلَ بِنَا؟ فَقَالَ لَهُ ذُو نَفَرٍ: ومَا غَنَاءُ رَجُلٍ أسِيرٍ بِيَدَيْ مَلِكٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ غُدُوًّا أَوْ عَشِيًّا؟ مَا عِنْدِي غَنَاءٌ في شَيْءٍ مِمَّا نَزَلَ بِكَ، إلَّا أَنَّ (أُنَيْسًا) سَائِقَ الفِيلِ صَدِيقٌ لِي، وسَأُرْسِلُ إِلَيْهِ فأُوصِيهِ بِكَ، وأُعْظِمُ عَلَيْهِ حَقَّكَ، وأسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى المَلِكِ، فَتُكَلِّمَهُ بِمَا بَدَا لَكَ، ويَشْفَعَ لَكَ عِنْدَهُ بِخَيْرٍ إنْ قَدر على ذَلِكَ، فَقَالَ: حَسْبِي، فَبَعَثَ ذُو نَفَرٍ إِلَى (أُنَيْسٍ) فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ سَيِّدُ قُرَيْشٍ، وصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ، يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ، والوُحُوشَ فيِ رُؤُوسِ الجِبَالِ، وقَدْ أَصَابَ لَهُ المَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ، فاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ، وانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتَطَعْتَ.

لقاء عَبْدِ المُطَّلِبِ بأبْرَهَةَ الحَبَشِيِّ:

فَفَعَلَ أُنَيْسٌ، وَأَذِنَ أبْرَهَةُ لِعَبْدِ المُطَّلِبِ بِالدُّخُولِ عَلَيْه، وكَانَ عَبْدُ المُطَّلِبِ أوْسَمَ النَّاسِ، وأجْمَلَهُمْ، وأعْظَمَهُمْ، فلَمَّا رَآهُ أبْرَهَةُ أَجَلَّهُ، وأعْظَمَهُ، وأكْرَمَهُ عَنْ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ، وكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الحَبَشَةُ يَجْلِسُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، فَنَزَلَ أبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ، وأجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إِلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: حَاجَتَكَ؟ فقَالَ لهُ ذَلِكَ التَّرْجُمَانُ، فقَالَ: حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ المَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أصَابَهَا لِي، فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ أبْرَهَةُ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: قَدْ كُنْتَ أعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي، أتُكَلِّمُنِيُ فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أصَبْتُهَا لكَ وتَتْرُكَ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ ودِينُ آبَائِكَ، قَدْ جِئْتُ لِأَهْدِمَهُ، لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ؟

فقَالَ لَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ: إنِّي أنَا رَبُّ الإِبِلِ، وإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَمْنَعُهُ.

فَقَالَ أبْرَهَةُ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي.

قاَل: أنْتَ وذَاكَ.

فَأَمَرَ أبْرَهَةُ أَنْ يُرَدَّ إبِلُ عَبْدِ المُطَّلِبِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَبَضَهَا قَلَّدَها النِّعَالَ وأشْعَرَهَا وجَعَلَهَا هَدْيًا، وَبَثَّهَا فِي الحَرَمِ كَيْ يُصَابَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَغْضَبَ رَبُّ الحَرَمِ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ المُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ وَيَسْتَنْصِرُهُ، وهُوَ آخِذٌ بِحَلَقَةِ بَابِ الكَعْبَةِ ويَقُولُ:

لَاهُمَّ إِنَّ المَرْءَ يَمْنَعُ رَحْلَهُ ... فَامْنَعْ رِحَالَكْ

لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ومَحَالُهُمْ ... غَدْوًا مَحَالَكْ

إنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وقِبْلَتَنَا ... فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ

وأشَارَ عَبْدُ المُطَّلِبِ عَلَى قَوْمِهِ بالتَّفَرُّقِ في الشِّعَابِ، والتَّحَرُّزِ في رُؤُوسِ الجِبَالِ؛ تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ أذى الجَيْشِ.

دخول أبرهة وجيشِه مكَّةَ:

تَهَيَّأَ أبْرَهَةُ لِدُخُولِ مَكَّةِ، وعَبَّأَ جَيْشَهُ، وهَيَّأَ فِيلَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي وَادِي (مُحَسِّرٍ) بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَمِنًى، بَرَكَ الفِيلُ، ولَمْ يَقُمْ لِيَقْدَمَ إِلَى الكَعْبَةِ، ويُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا وجَّهُوا الفِيلَ إِلَى مَكَّةَ أقْبَلَ نُفَيْلُ بنُ حَبِيبٍ الخَثْعَمِيُّ حتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِ الفِيلِ، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ، فَقَالَ: ابْرُكْ مَحْمُودُ، فَإِنَّكَ في بَلَدِ اللَّهِ الحَرَامِ، ثُمَّ أرْسَلَ أُذُنَهُ، فبَرَكَ الفِيلُ، وخَرَجَ نُفَيْلٌ يَشْتَدُّ حتَّى أَصْعَدَ في الجَبَلِ، وضَرَبُوا الفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَضَرَبُوا رَأْسَهُ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى اليَمَنِ، فَقَامَ يُهَرْوِلُ، ووَجَّهُوهِ إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، ووَجَّهُوهُ إِلَى المَشْرِقِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، ووجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ.

إرسال الطَّيْرِ الأَبَابِيلِ:

بَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إذْ أرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ طَيْرًا أبَابِيلَ مِنَ البَحْرِ، مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أحْجَارٍ: حَجَرٌ في مِنْقَارِهِ، وحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، وحَجْمُ الحِجَارَةِ كحَجْمِ الحُمُّصِ أَوِ العَدَسِ، لَا يُصِيبُ مِنْهُمْ أحَدًا إلَّا صَارَ تَتَقَطَّعُ أعْضاؤُهُ ويَهْلِكُ، ولَيْسَ كُلُّهُمْ أصَابَتْ، وخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّريقَ الذِي مِنْهُ جَاؤُوا.

هَلَاكُ أبْرَهَةَ الأشْرَمِ:

وَأَمَّا أبْرَهَةُ، فبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَاءً تَسَاقَطَتْ بِسَبَبِهِ أنَامِلُهُ، أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً، ولَمْ يَصِلْ إِلَى صَنْعَاءَ إلَّا وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ، وانْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ، فَمَاتَ شَرَّ مِيتَةٍ.

قال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل: 1-5].


للاستزادة


  1. البداية والنهاية (2/ 565).
  2. سيرة ابن هشام (1/ 76).
  3. الرَّوْض الأُنُف (1/ 117).
  4. دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 144).
  5. دلائل النبوة للبيهقي (1/ 115).
  6. السيرة النبوية لابن كثير (1/ 28).
  7. اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (1/ 56).

اخترنا لكم


دلائل النبوة كلام النبي ﷺ مع أبي جهل، وما رآه من العبر والآيات
كلام النبي ﷺ مع أبي جهل، وما رآه من العبر والآيات

لقد أظهر أبو جهل العداوة والبغضاء للنبيِّ ﷺ، رغم شهادته للنبي ﷺ بالصدق والأمانة، وقد قال الله عنه وعن أمثاله من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم ممن كذَّبو (...)

دلائل النبوة الدخول في الإسلام بسبب حسن خلق النبي ﷺ
الدخول في الإسلام بسبب حسن خلق النبي ﷺ

كان النبيُّ ﷺ مجبولًا على الأخلاق الحميدة في أصل خِلْقَتِه، وَأَوَّلِ فِطْرَتِهِ، بِجُودٍ إلَهِيٍّ، وخُصُوصِيَّهٍ رَبَّانِيَّةٍ، فكان ﷺ وَصُولًا للرَّ (...)

دلائل النبوة ما سُمع من الجنّ والكهّان بالإخبار عن نبوّته ﷺ
ما سُمع من الجنّ والكهّان بالإخبار عن نبوّته ﷺ

لقد مهَّد الله تعالى لبعثة نبيِّه ﷺ بإرهاصات وعلامات منذ ولادته، ولَمَّا كان قُبيل بعثته ﷺ ترادفت عليه علامات نبوَّته وتكاثرت، وحدَّث بها الكهَّان بم (...)

دلائل النبوة أسماء النبيِّ ﷺ وكُنْيته
أسماء النبيِّ ﷺ وكُنْيته

إن للنبيِّ ﷺ أسماءً كثيرة، ثبتت في القرآن والسُّنَّة، ورد منها في القرآن الكريم اسمان فقط، هما: "محمد"، و"أحمد"، وورد (...)