بدء الوحي للنبي ﷺ

عندما اقترب نزول الوحي على النبيِّ ﷺ، بدأت تَلُوحُ آثارُ النُّبُوَّةِ عليه ﷺ، وتهيئته لاستقبال الوحي، وكان أول ما بُدئ به الرؤيا الصادقة أو الصالحة، فكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا فِي نَوْمِهِ إِلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ – أي: ضيائه - حَتَّى مَضَتْ عَلَى ذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بُدِئَ بِالْوَحْيِ ﷺ، وقد بُدِئَ ﷺ بالرُّؤيَا الصَّادقَةِ ليكُونَ تَمْهِيدًا وتَوْطِئَةً لليَقَظَةِ.

أخرج البخاريُّ (3) ومسلم (160) عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: "أَوَّلُ مَاُ بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ".

الرؤيا الصادقة جزء من النبوة:

أخرج البخاريُّ (6983) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «الرُّؤْيَا الحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ». (الرجل) أي الإنسان رجلًا أو امرأة. (من النبوة) لأن الأنبياء يُخبرون بما سيكون، والرؤيا تدلُّ على ما يكون، وقيل هذا في حقِّ رؤيا الأنبياء دون غيرهم، وكان الأنبياء يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة.

وأخرج البخاريُّ (6988) ومسلم (2263) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «رُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ».

وقد ذهب بَعْض أَهْل الْعِلْم إلى أن وجه المناسبة في تحديد أجزائها بالعدد المذكور في الحديث أَنَّ اللَّه أَوْحَى إِلَى نَبِيّه ﷺ فِي الْمَنَام سِتَّةَ أَشْهُر، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ بَعْد ذَلِكَ فِي الْيَقَظَة بَقِيَّة مُدَّة حَيَاته، منذ بَدْء الوحيِ إلى أن مات ﷺ ثلاثًا وعشرين سنةً، أقام بمكَّةَ منها ثلاثَ عشْرةَ سنةً، وبالمدينة عشْرَ سنينَ، فكانت نسبة مدَّة الوحي في المنام في مكَّةَ نصف سنة إلى الوحي في اليقظة ثلاثًا وعشرين سنةً، فصارت مدة الوحي بالرؤيا الصادقة جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من النبوَّة.

حُبُّ النَّبِيِّ ﷺ لِلْخَلْوَةِ:

لَمَّا قرب نزول الوحي على النبيِّ ﷺ، واقتربت سِنُّه ﷺ من الْأَرْبَعِينَ سنةً، حَبَّبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ الْخَلْوَةَ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ وَحْدَهُ في غار حِراءٍ - وهو غارٌ صَغيرٌ في جبَلٍ من جِبَالِ مكَّةَ يسمَّى (جبَل النُّورِ) - فكان يخلو فيه، ويتعبَّد فيه اللياليَ ذواتِ العدد، فتارة عشْرًا، وتارة أكثر من ذلك إلى شهر، ثم يعود إلى بيته، فلا يكاد يمكث فيه قليلًا حتى يتزوَّد من جديد لخَلْوة أخرى، ويعود الكَرَّة إلى غار حراء، وهكذا إلى أن جاءه الوحيُ وهو في إحدى خَلَواته تلك.

أخرج البخاريُّ (3) ومسلم (160) عَنْ عَائِشَةَ - رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ... ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ".

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا قَضَى جِوَارَهُ – أي: اعتكافه - مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ، كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ إِذَا انْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ الْكَعْبَةَ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجعُ إِلَى بَيْتِهِ، وَظَلَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ إِلَى أَنْ جَاءَهُ الْوَحْيُ.

متى نزل الوحي على النبيِّ ﷺ:

لَمَّا بلغت سنُّ النبيِّ ﷺ أَرْبَعِينَ سنةً، أَشْرَقَ عَلَيْهِ نُورُ النُّبُوَّةِ، وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرِسَالَتِهِ، وَبَعَثَهُ إِلَى خِلْقِهِ، وَاخْتَصَّهُ بِكَرَامَتِهِ، وَجَعَلَهُ بشيرًا ونذيرًا إلى الناس كافَّةً.

خرج النبيُّ ﷺ إلى غار حِرَاءٍ كَمَا كَانَ يَخْرُجُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فأَتَاهُ جِبْرِيلُ - عليهِ السَّلامُ - بِأَمْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ – وَأرسله الله تَعَالَى إلى الناس كافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا، ورَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

أخرج البخاريُّ (3902) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: "بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ".

وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ؛ قال تَعَالَى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185].

أخرج مسلم (1162) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَقَالَ: "فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهُ أُنْزِلَ عَلَيَّ".

بَدْءُ نزول الوحي على النبيِّ ﷺ:

رَوَت أمُّ المؤمنين عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قِصَّةَ بَدْءِ الْوَحْي بالتفصيل، في الحديث الذي أخرجه البخاريُّ (3) ومسلم (160) قَالَتْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي – أي: أطْلَقَنِي - فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]".

والحكمةُ في هذا الغَطِّ لإظهارِ الشِّدَّةِ، والجِدِّ في الأمر؛ تَنْبِيهًا على ثِقَلِ القولِ الذي سَيُلقى إليه ﷺ، فهي لتنبيه النبيِّ ﷺ على عِظَم وأهمية ما هو مُقدِم عليه من أمر الوحي والرسالة، وعِظَم الْمَهمَّة التي سيحمل أعباءها.

وكان ﷺ يُجيب في كل مرة بقوله: "ما أنا بقارئ"، فإنه ﷺ أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وهذه مُعجِزة، فلو كان يقرأ ويكتب لارتابوا واتَّهموه بكتابة القرآن؛ قال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: 48].

والإعجاز في ذلك أنه ﷺ أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وأتى بما يُعجِر البُلَغاء والعلماء، ونشر العلم، وجعل الناس يقرؤون ويكتبون، وبنى حضارة تأسَّست على العلم والمعرفة.

للاستزادة


  1. زاد المعاد (1/ 76).
  2. فتح الباري لابن حجر (9/ 735).

اخترنا لكم


دلائل النبوة عصمة النبي ﷺ حين تعاقد المشركون على قتله
عصمة النبي ﷺ حين تعاقد المشركون على قتله

أرسل الله تعالى رسوله ﷺ برسالة الإسلام، ومعلومٌ ما أصاب الأنبياء والرسل من قبله من البلاءات والقتل، إلا أن الله تعالى قد عصم رسوله من أن يتسلَّط عليه (...)

دلائل النبوة تفرُّده ﷺ بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء
تفرُّده ﷺ بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء

لا خلاف في أن نبيَّنا محمدًا ﷺ أفضل البشر، وسيِّد ولد آدم يوم القيامة، وهو أفضل الأنبياء والمرسَلين، وأفضل الأوَّلين والآخرين. فضائل النبيِّ ﷺ على ا (...)

دلائل النبوة وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ

من فضائل النبيِّ ﷺ أنَّ الله تعالى فضَّله على سائر الأنبياء والمرسلين: فقد أجمعت الأمة بأنَّ نبيَّنا محمدًا ﷺ هو أفضل الأنبياء في الدنيا والآخرة، قال (...)

دلائل النبوة صفات النبيِّ ﷺ الخَلْقية والخاتم بين كتفيه
صفات النبيِّ ﷺ الخَلْقية والخاتم بين كتفيه

حبا الله تعالى رسوله المرتضى، ونبيَّه المجتبى، وحبيبه المصطفى ﷺ بصفاتٍ عظيمة جليلة، سواء أكانت صفاتٍ خُلُقيةً ظهرت على سلوكه القويم، أم صفاتٍ خَلْقيةً (...)