إتيان جبريل إلى النبي ﷺ على صورته

لقد تعدَّدت أنواع الوحي، إلا أن معظم الوحي كان من خلال أمين الوحي جبريلَ – عليه السلام – ولكنه كان يأتي للنبيِّ ﷺ في صور متعدِّدة، ولم يره النبيُّ ﷺ على صورته الحقيقية إلا مرتين.

الصور التي كان يأتي بها جبريلُ إلى النبيِّ ﷺ:

1. أن يُلقيَ جبريل الوحيَ في رُوع النبيِّ ﷺ وقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ؛ عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ" رواه الحاكم في المستدرك (2181)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1702).

2. أن يتمثَّل جبريل لَلنبيِّ ﷺ رَجُلًا، فيُخَاطِبُهُ حتَّى يَعِيَ عَنْهُ ما يَقُولُ لهُ، وفِي هذه المَرْتَبَةِ كَانَ يَرَاهُ الصَّحَابَةُ أحْيَانًا؛ أخرج مسلم (8) عن عمر -رضي اللَّه عنه – قال: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: «مَا الْمَسْؤولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ».

3. أن يَأْتِيهِ ﷺ الوحيُ في مِثْل صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وكَانَ أشَدُّهُ عَلَيْهِ، فيَتَلَبَّسُ بِهِ المَلَكُ، حتَّى إِنَّ جَبِينَهُ يسيل منه العرَق في اليَوْمِ الشَّدِيدِ البَرْدِ، وحتَّى إِنَّ نَاقَتَهُ لَتَبْرُكُ بِهِ إِلَى الأَرْضِ إِذَا كَانَ رَاكِبَهَا؛ أخرج البخاريُّ (2) ومسلم (2333) عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ الحَارِثَ بنَ هِشَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَألَ رسُولَ اللَّهِ ﷺ فقَالَ: يا رسُولَ اللَّهِ، كيفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟ فقَالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ»، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: "وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ فِي اليَوْمِ الشَّدِيدِ البَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا".

4. أن يأتيه ﷺ جبريل في صورته التي خُلق عليها.

النبيُّ ﷺ يرى جبريل في صورته:

رأى النبيُّ ﷺ فِي صُورَتِهِ التِي خُلِقَ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ. روى الترمذيُّ (3562) عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: "لم يَرَ محمّد ﷺ جبريل - عليهِ السَّلامُ - في صُورتِهِ إلا مرَّتين: مرَّة عند سِدْرَة المُنْتَهَى، ومرَّة في جِيَادٍ لهُ سِتُّمِائة جَنَاحٍ قد سَدَّ الأُفُق"، وأخرج مسلم (177) عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبيَّ ﷺ قال: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ».

وأخرج البخاريُّ (4) ومسلم (161) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّهُ سَمعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْي، قَالَ فِي حَدِيثِهِ ﷺ: "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5]، فَحَمِيَ الوَحْيُ وَتَتَابَعَ"؛ أي: كَثُر نزوله ومجيئه.

قال ابن كثير في تفسيره (7/ 444): " ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾ [النجم: 4-18].

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنَّهُ عَلَّمه الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى النَّاسِ {شَدِيدُ الْقُوَى}، وَهُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا قَالَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التَّكْوِيرِ: 19 -21]. وَقَالَ هَاهُنَا: {ذُو مِرَّةٍ}؛ أَيْ: ذُو قُوَّةٍ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُو مَنْظَرٍ حَسَنٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُو خَلْق طَوِيلٍ حَسَنٍ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذُو مَنْظَرٍ حَسَنٍ، وَقُوَّةٍ شَدِيدَةٍ.

وَقَوْلُهُ: {فَاسْتَوَى}؛ يَعْنِي: جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. {وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى}؛ يَعْنِي: جِبْرِيلَ، اسْتَوَى فِي الْأُفُقِ الْأَعْلَى. قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. قَالَ عِكْرِمَةُ: وَالْأُفُقُ الْأَعْلَى: الَّذِي يَأْتِي مِنْهُ الصُّبْحُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَطْلَعُ الشَّمْسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي يَأْتِي مِنْهُ النَّهَارُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ... وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ، أَمَّا وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَرَاهُ فِي صُورَتِهِ فَسَدَّ الْأُفُقَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهُ حَيْثُ صَعِدَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى}".

للاستزادة


  1. دلائل النبوة للبيهقي (2/ 366).
  2. تفسير ابن كثير (7/ 444).

اخترنا لكم


دلائل النبوة حراسة السماء من استراق السمع لثبوت بعثه ﷺ
حراسة السماء من استراق السمع لثبوت بعثه ﷺ

لقد مهَّد الله تعالى لبعثة نبيِّه ﷺ بإرهاصات وعلامات منذ ولادته، ولَمَّا كان قُبيل بعثته ﷺ ترادفت عليه علامات نبوَّته وتكاثرت، وحدَّث بها الكهَّان بم (...)

دلائل النبوة عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً
عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً

إن النبيَّ ﷺ اسمه محمد، قد اشتمل مُسَمَّاهُ على الْحَمد؛ "فَإِنَّهُ ﷺ مَحْمُود عِنْد الله، ومحمود عِنْد مَلَائكَته، ومحمود عِنْد إخوانه من الْمُرْسلين (...)

دلائل النبوة وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ

لقد خلق الله تعالى الإنسان وأوكله إلى نفسه، فيعتريه النقصُ دائمًا، ولا يمكن أن يبلغ درجة الكمال البشريِّ في الأفعال والأخلاق، إلا النبيَّ محمدًا ﷺ دون (...)

دلائل النبوة فضائل أولى قبلتي النبي ﷺ المسجد الأقصى
فضائل أولى قبلتي النبي ﷺ المسجد الأقصى

للمسجد الأقصى فضائلُ عظيمةٌ، وهو من أكبر مساجد الإسلام بعد المسجد الحرام والمسجد النبويِّ الشريف. سبب تسميته المسجد الأقصى:سبب تسميته (...)