موقف أبي بكر وقريش من الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ

إن رحلة الإسراء والمعراج من أشهر المعجزات، وأظهر البراهين البيِّنات، وأقوى الحُجَج الْمُحْكَمات، وأصدق الأنباء، وأعظم الآيات، وأتمِّ الدلالات الدالَّة على تخصيصه ﷺ بعموم الكرامات.

وإن كانت رحلة الإسراء والمعراج معجزةً وآية من آيات النُّبوَّة، فإن آياتِ الأنبياء ليس من شرطها استدلالُ النبيِّ بها، ولا تَحَدِّيه بالإتيان بمثلها؛ بل هي دليلٌ على نبوَّته، ونلاحظ أن النبيَّ ﷺ لم يتَّخِذ من الإسراء والمعراج معجزةً لتصديق رسالته، مع أن قومه كانوا يُلِحُّون في طلب الخوارق؛ قال تعالى على لسانهم: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93]، فبلَّغهم النبيُّ ﷺ ما حَدَث في رحلة الإسراء والمعراج من باب تبليغ الحقِّ، لا ليتحدَّاهم بها على صِدق رسالته؛ فإنه لم يُنقَل عنه ﷺ التحدِّي إلا في القرآن خاصَّةً، وما وقع للنبيِّ ﷺ من خوارقَ وآياتٍ – مثل: انشقاق القمر والإسراء والمعراج - لم تُتَّخَذ معجزةً مصدِّقةً للرسالة؛ إنما جُعِلت فتنةً للناس وابتلاءً لإيمانهم.

فتنة الناس وابتلاؤهم بالإسراء والمعراج:

لقد كَانَتْ رحلة الإسراء والمعراج فِتْنَةً عَظِيمَةً، حيث ارْتَدَّ بَعْضُ مَنْ أسْلَمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنْ إِسْلَامِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60]، ومن ثَمَّ كانت رؤيا الآيات التي أراها الله لنبيِّه ﷺ ليلة الإسراء والمعراج فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وابتلاءً لإيمانهم، وتمحيصًا، فيها عبرةٌ لأولي الألباب، وهدًى وثباتٌ لمن آمَن وصدَّق، وكان على يقين من أمر الله تعالى، فمِن أهل الإسلام من ثبت على إيمانه وازداد يقينًا، ومنهم من فُتن وانقلب على عَقِبيه وكفر بعد إسلامه.

أخرج البخاريُّ (3888) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ [الإسراء: 60] قَالَ: "هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ، أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ"، قَالَ: ﴿وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ﴾ [الإسراء: 60]، قَالَ: "هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ".

موقف قريش:

لَمَّا أصبح رسول الله ﷺ بلَّغ قومه وأخبرهم بما أراه الله تعالى من آياته الكبرى، وكالعادة كذَّيوه وسَخِروا منه، وازدادوا إنكارًا للرسالة، وتحدَّوْه أن يصف لهم بيت المقدس؛ حيث إنهم يعلمون أن النبيَّ ﷺ لم يذهب إلى بيت المقدس من قبلُ، فجلَّاه الله له، فأخذ يصفه لهم بدقَّة وهو ينظر إليه، فبُهِت القوم، ولم يستطيعوا أن يردُّوا عليه شيئًا، ثم زادهم من علامات صِدقه أن أخبرهم عن قافلة لقُريش كان رآها في طريق عودته من بيت المقدس إلى مكَّةَ، وأخبرهم بوقت قُدومها، وأخبرهم بأمر بَعِيرٍ كان شَرَد منهم في الطريق، فلمَّا وصلت القافلة، وتبيَّن لهم أن الأمر كما قال، لم يزدهم ذلك إلا نفورًا، وأبى الظالمون إلا كفورًا.

قال رسول الله ﷺ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي، وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ، عَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ، فَقَعَدت مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ عَدُوُّ اللهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيَّ، فَقَالَ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟

قلت: نَعَمْ.

قَالَ: مَا هُوَ؟

قلتُ: إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ.

قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟

قلت: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟

قلتُ: نَعَمْ.

فَلَمْ يُرِهِ أَنْ يُكَذِّبَهُ؛ مَخَافَةَ أنْ يَجْحَدَهُ الحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ.

قَالَ: أرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ، أتُحَدِّثُهُمْ بِمَا حَدَّثْتَنِي؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: نَعَمْ.

فَقَالَ: هَيَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ.

فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ، وَجَاؤُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا.

قَالَ أبو جهل: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلةَ.

قَالوا: إِلَى أَيْنَ؟

قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟

قَالَ: نَعَمْ.

فَضَجَّ المُشْرِكُونَ وَأَعْظَمُوا ذَلِكَ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ يُصَفِّقُ، وَبَعْضُهُمْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ تَعَجُّبًا.

قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَرَأَى الْمَسْجِدَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ – أي: أَصِفُ - فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ، فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ، فَنَعَتُّهُ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ، فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ. (أخرجه أحمد في مسنده بسند صحيح (2819)، والنسائيُّ في السنن الكبرى (11221)).

ثم زادهم من علامات صِدقه أن أخبرهم عن عِيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قُدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يَقدُمها، وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا، وأبى الظالمون إلا كفورًا. (زاد المعاد لابن القيِّم (3/ 35)).

عَظَمة موقف أبي بكر الصدِّيق:

بَقِيَ موقف أبي بكر الصدِّيق – رضي الله عنه – بتصديقه ما أخبر به النبيُّ ﷺ دون تردُّد أو تفكير دليلًا على قوَّة إيمانه، حتى إنه لُقِّب بالصدِّيق بسبب هذا الموقف العظيم؛ إذ إنه أظهر أن الأمر بَدَهيٌّ؛ فعندما سعى إليه بعض كفَّار قُريش ليُخبروه بما أخبرهم به ﷺ ظانِّين أنه سيُنكر ذلك؛ فهو خبر مضادٌّ لعقولهم – مع أنهم يُنكرون الوحيَ والرسالة عامَّةً، ويحتجُّون بمضادَّته لعقولهم - فاجأهم الصدِّيق بأنه لم يفكِّر في الأمر؛ بل أعلن إيمانه في حوار شائق روته السيدة عائشة – رضي الله عنها – قالت: "لَمَّا أُسْرِيَ بالنبيِّ ﷺ إلى المسجد الأقصى، أَصْبَحَ يتحدَّث الناس بذلك، فارتدَّ نَاسٌ، فيمن كان آمنوا به وصدَّقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقالوا: هل لك إلى صاحبِك يَزْعُم أنه أُسري به الليلةَ إلى بيت المقدس؟

قال: أوَقال ذلك؟

قالوا: نَعَمْ.

قال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق.

قالوا: أوَتُصَدِّقُه أنه ذهب الليلةَ إلى بيت المقدس وجاء قبلَ أن يُصْبح؟

قال: نعم، إني لأصدِّقه فيما هو أبعدُ من ذلك؛ أُصدِّقه بخَبَر السماء في غَدْوة أو رَوْحة؛ فَهَذَا أَبْعَدُ مِمَّا تَعْجَبُونَ مِنْهُ.

ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَحَدَّثْتَ هَؤُلَاءِ القَوْمَ أَنَّكَ جِئْتَ بَيْتَ المَقْدِسِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟

قَالَ: "نَعَمْ".

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ.

فَقَالَ رَسُول اللَّهِ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ: "وَأَنْتَ يَا أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ"، فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ الصِّدِّيقَ. (أخرجه الحاكم في المستدرك (4407)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبيُّ، وانظر السلسلة الصحيحة للألبانيِّ (306)).

للاستزادة


  1. زاد المعاد لابن القيِّم (3/ 35).
  2. اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (1/500).

اخترنا لكم


دلائل النبوة ردُّ كيد أبي جهل عن النبي ﷺ
ردُّ كيد أبي جهل عن النبي ﷺ

لَمَّا صدع النبيُّ ﷺ بأمر الله تعالى، ودعا أهل مكة إلى التوحيد وترْك عبادة الأصنام، لَقِي من قريش جحودًا وشدَّة، وإعراضًا وإيذاءً، وكان أبو جهل من أوا (...)

دلائل النبوة الإسراء والمعراج بجسد النبي ﷺ وروحه
الإسراء والمعراج بجسد النبي ﷺ وروحه

كانت رحلة الإسراء والمعراج في اليقظة بجسد النبيِّ ﷺ ورُوحه، لذا؛ كانت معجزةً وكرامة للنبيِّ ﷺ، وإلا لو كانت مَنامًا (...)

دلائل النبوة ما دار بينه ﷺ وبين المشركين وصبره على بلوى الدعوة والأذية
ما دار بينه ﷺ وبين المشركين وصبره على بلوى الدعوة والأذية

لقد كانت حياة النبيِّ ﷺ كلُّها صبرًا لا ينقطع، وجهادًا ومجاهدة، وعملًا دائبًا، منذ أن نزلت عليه أوَّل آية، وحتى آخر لحظة في حياته، وقد أدرك ﷺ طبيعة ما (...)

دلائل النبوة سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا

كانت رحلةُ الإسراء والمعراج مواساةً للنبىِّ ﷺ وتَسْريَةً لنفسه، وإذهابًا للوحشة التى نالت قلب الرسول ﷺ بفَقْد حبيبينِ: زوجِه خديجةَ (...)