وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ

لقد خلق الله تعالى الإنسان وأوكله إلى نفسه، فيعتريه النقصُ دائمًا، ولا يمكن أن يبلغ درجة الكمال البشريِّ في الأفعال والأخلاق، إلا النبيَّ محمدًا ﷺ دون سائر البشر؛ فلقد قال الله تعالى له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].

عِظَمُ خُلُقه ﷺ من دلائل نبوَّته:

خاطب الله تعالى نبيَّه ﷺ قائلًا له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، فوصفه الله تعالى وخصَّه بما أعطاه من عظيم الأخلاق ما يدلُّ على عظمته ﷺ ويدلُّ أيضًا على عظمة الله تعالى، وعظمة رسالة الإسلام التي أرسل بها رسوله ﷺ، ومن ثَمَّ صار عِظَمُ خُلقه ﷺ من دلائل نبوَّته، فصار دليلًا نقليًّا في القرآن، ودليلاً عقليًّا على نبوَّته ﷺ؛ فأنَّى يكون صاحب هذه الأخلاق العظيمة دَعيًّا يفتري على الله الكذب، وهو النموذج الذي وضعه الله للبشر ليتأسَّوْا به، وأخبرهم أنه على خُلق عظيم؟!

الدليل الأول للمسلمين الأوائل الذي جعلهم يسلمون:

لقد أسلم السابقون الأوَّلون من المسلمين بدليل عظم خُلق رسول الله ﷺ فقط؛ فلم يكن قد نزل القرآن، ولم يروا معجزاتٍ للنبيِّ ﷺ؛ إنما كانت مكارم النبيِّ ﷺ وأخلاقه العظيمة وكماله البشري هو دليلَهم الوحيد لصدق النبيِّ ﷺ واستحالة أن يفتريَ على الله الكذب.

فكانت السيدة خديجة – رضي الله عنها – زوجه ﷺ أول المؤمنين به من البشر على الإطلاق، آمنت به نبيًّا بدليل ما رأته من عِظم أخلاقه، وكريم خلاله ومكارمه؛ فعندما رجع إليها من غار حراءَ خائفًا، قالت له: "كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيك الله أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ" رواه البخاريُّ ومسلم.

 ولقد آمن أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بالنبيِّ ﷺ دون أدنى تردُّد بمجرَّد إخبار النبيِّ ﷺ له بدليل ما لمسه من أخلاقه العظيمة ﷺ.

تعامل النبيِّ مع الإطراء:

رغم ما يصيب أي إنسان من تغيُّرات نفسية بالمدح والذمِّ من الناس، خاصَّةً مَن هم أعلى منه منزلةً، فإن النبيَّ ﷺ سمع قوله تعالى له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ، فبلَّغ قول الله تعالى وشهادته له، ولم يزدد إلَّا عِظَمًا في الأخلاق والسُّمُوِّ، حتى كان خُلقُه القرآنَ؛ سُئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خُلق رسول الله ﷺ فقالت: "كان خُلُقه القرآن" رواه أحمدُ وأبو يعلى، وصحَّحه الألبانيُّ في صحيح الجامع.

فهذا الرسول ﷺ الذي نال هذه الشهادة من ربه تعالى، انظر إليه كيف تعامل مع إطراء البشر؟ قال ﷺ: ((لَا تُطْرُونِي كما أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فإنَّما أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولوا: عبدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ)) رواه البخاريُّ.

عبد الله ورسوله، إنه البلاغ الحقُّ، والإيمان يبلِّغه كما هو، لا يزيد ولا ينقص، يأمرهم ﷺ ألا يمدحوه بغير الحقِّ، وإلا فهو الباطل والضلال.

ودخل عليه رجل فقال: يا سيِّدَنا وابنَ سيدِنا، ويا خيرَنا وابنَ خيرِنا، فقال رسول الله ﷺ: ((يا أيها الناسُ، عليكم بتقواكم، ولا يَسْتَهْوِيَنَّكم الشيطان، أنا محمدُ بنُ عبدِ الله، عبدُ الله ورسولُه، واللهِ، ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزَّ وجلَّ )) رواه أحمد.

وحينما كان يقوم الليل حتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فقِيلَ له: غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، قالَ: ((أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!)) رواه البخاريُّ ومسلم.

فمقام العبودية لله والافتقار إليه هو أعظم المقامات، يبلِّغهم النبيُّ ﷺ ذلك، لا الإطراء بالباطل، وادِّعاء الغيب، وتأليه البشر.

ولقد كان النبيُّ ﷺ يُبغض أن يقوم له أصحابُه، ويمنعهم منذ ذلك؛ قال أنس: "ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله ﷺ وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لِما يعلمون من كراهيته لذلك" رواه أحمد، والترمذيُّ وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وقال ابن مسعود – رضي الله عنه -: كنّا يوم بدر، كلُّ ثلاثة على بعير – أي: يتعاقبون - وكان أبو لبابةَ وعليُّ بنُ أبي طالبٍ زميلَيْ رسول الله ﷺ قال: فكانت عقبة رسول الله ﷺ فقالا له: نحن نمشي عنك - ليظلَّ راكبًا - فقال: ((ما أنتما بأقوى مني على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)) رواه أحمد، وأخرجه الحاكم وقال: حديث صحيح على شرط مسلم.

ويقول البراء بن مالك: "كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمَ الْأَحْزَابِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ، وَلَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ..." رواه البخاريُّ ومسلم.

وكان يجبر قلوب الناس والضعفاء ويسعى في حاجتهم؛ قال عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُكْثِرُ الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ" رواه النسائيُّ، وصحَّحه الألبانيُّ.

وأَتَاه رَجُلٌ، فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ - كِنَايَة عَنْ الْفَزَع، فالْفَرَائِص: جَمْع فَرِيصَة، وَهِيَ لَحْمَة تَرْتَعِد عِنْد الْفَزَع - فَقَالَ لَهُ: ((هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ؛ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ)) والْقَدِيد: اللَّحْم الْمُمَلَّح الْمُجَفَّف فِي الشَّمْس. رواه ابن ماجه، وصحَّحه الألبانيُّ.

وسُئلت عائشة – رضي الله عنها -: ما كان ﷺ يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مهنة أهله – أي: في خدمتهم - فإذا حضرت الصلاةُ، خَرَج إلى الصلاة"، وفي رواية لأحمد: "كان بشَرًا من البشر، يَفْلي ثوبه، ويحلِب شاته، ويَخْدُمُ نفسَه" رواه البخاريُّ وأحمد.

وكان ﷺ أرحمَ البشر بالأطفال؛ يقول أنس بن مالك: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ" رواه مسلم.

وقال ابنُ عباس - رضي الله عنه -: " كان رسول الله ﷺ أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسُه القرآن، فلرسولُ الله ﷺ أجودُ بالخير من الريح المرسَلة" رواه البخاريُّ ومسلم.

وعن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا عِنْدِي شَيْءٌ؛ وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ، فَإِذَا جَاءَنِي شَيْءٌ قَضَيْتُهُ))، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَعْطَيْتَهُ فَمَّا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ ﷺ قَوْلَ عُمَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفِقْ وَلَا تَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَعُرِفَ فِي وَجْهِهِ الْبِشْرُ لِقَوْلِ الْأَنْصَارِيِّ، ثُمَّ قَالَ: ((بِهَذَا أُمِرْتُ)) رواه الطبريُّ في تهذيب الآثار، والترمذيُّ في الشمائل، والبزَّار في مسنده.

ولا يسعنا المقام لتتبُّع أخلاقه ﷺ واستيعابها، فصلَّى الله على من خاطبه ربه قائلًا: {وإنك لعلى خلق عظيم}.


للاستزادة


  1. الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (1/ 206).
  2. الشمائل الشريفة للسيوطي (ص: 25).

اخترنا لكم


دلائل النبوة آيات رآها النبي ﷺ  في طريقه إلى بيت المقدس
آيات رآها النبي ﷺ في طريقه إلى بيت المقدس

قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ (...)

دلائل النبوة ما دار بينه ﷺ وبين المشركين وصبره على بلوى الدعوة والأذية
ما دار بينه ﷺ وبين المشركين وصبره على بلوى الدعوة والأذية

لقد كانت حياة النبيِّ ﷺ كلُّها صبرًا لا ينقطع، وجهادًا ومجاهدة، وعملًا دائبًا، منذ أن نزلت عليه أوَّل آية، وحتى آخر لحظة في حياته، وقد أدرك ﷺ طبيعة ما (...)

دلائل النبوة حمل أمِّه ﷺ ووضعها به وما شاهدته من الآيات
حمل أمِّه ﷺ ووضعها به وما شاهدته من الآيات

حملُ السيدةِ آمنةَ بالنبيِّ ﷺ وما شاهدته من الآيات:حملت السيدة الشريفة آمنةُ بنتُ وهبٍ بسيِّد ولد آدم كلهم منذ خلق الله آدم حتى قيام الساعة، خاتم ال (...)

دلائل النبوة إتيان جبريل إلى النبي ﷺ على صورته
إتيان جبريل إلى النبي ﷺ على صورته

لقد تعدَّدت أنواع الوحي، إلا أن معظم الوحي كان من خلال أمين الوحي جبريلَ – عليه السلام – ولكنه كان يأتي للنبيِّ ﷺ في صور متعدِّدة، ولم يره النبيُّ ﷺ ع (...)