لقد كان النبي ﷺ الأُسوةَ الحسنة، وبه يُضرَب المثل في الشجاعة؛ عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كان النَّبيُّ ﷺ أحسَنَ النَّاسِ، وأجوَدَ النَّاسِ، وأشجَعَ النَّاسِ، ولقد فَزِع أهلُ المدينةِ ذاتَ ليلةٍ، فانطلق النَّاسُ قِبَلَ الصَّوتِ، فاستقبَلَهم النَّبيُّ ﷺ قد سَبَق النَّاسَ إلى الصَّوتِ، وهو يقولُ: ((لن تُراعُوا، لن تُراعُوا)) وهو على فَرَسٍ لأبي طَلحةَ عُرْيٍ ما عليه سَرْجٌ، في عُنُقِه سَيفٌ، فقال: لقد وجَدْتُه بحرًا - بحرًا: أي: واسعَ الجَريِ - أو إنَّه لبَحرٌ)) أخرجه البخاري (6033) ومسلم (2307).
النبي ﷺ يعلمنا الشجاعة في نُصرة المظلوم:
لقد كان النبيُّ ﷺ لا يخشى في الله لومة لائم، يقول الحق، وينصر المظلوم، حتى في المرحلة المكية، ومن أمثلة ذلك أنه قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إرَاشَةَ - بطن من خثعم - بِإِبِلِ لَهُ مَكَّةَ، فَابْتَاعَهَا مِنْهُ أَبُو جَهْلٍ، فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا. فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ جَالِسٌ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَنْ رَجُلٌ يُؤَدِّينِي – أي: يُعِيننِي على أَخذ حَقي - عَلَى أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، فَإِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ، ابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقِّي؟
فَقَالَ لَهُ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ: أَتَرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ الْجَالِسَ - لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُمْ يَهْزَؤونَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ الْعَدَاوَةِ- اذْهَبْ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّيكَ عَلَيْهِ.
فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا الْحَكَمِ بْنَ هِشَامٍ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقٍّ لِي قِبَلَهُ، وَأَنَا رَجُلٌ غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ سَأَلْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَنْ رَجُلٍ يُؤَدِّينِي عَلَيْهِ، يَأْخُذُ لِي حَقِّي مِنْهُ، فَأَشَارُوا لِي إلَيْكَ، فَخُذْ لِي حَقِّي مِنْهُ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ.
قَالَ: انْطَلِقْ إلَيْهِ، وَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ مَعَهُ، قَالُوا لِرَجُلِ مِمَّنْ مَعَهُمْ: اتْبَعْهُ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ.
وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى جَاءَهُ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ.
فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَاخْرُجْ إلَيَّ.
فَخَرَجَ إلَيْهِ، وَمَا فِي وَجْهِهِ مِنْ رَائِحَةٍ، قَدْ انْتُقِعَ لَوْنُهُ.
فَقَالَ: أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقَّهُ.
قَالَ: نَعَمْ، لَا تَبْرَحْ حَتَّى أُعْطِيَهُ الَّذِي لَهُ.
فَدَخَلَ، فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقِّهِ، فَدَفَعَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَقَالَ لِلْإِرَاشِيِّ: الْحَقْ بِشَأْنِكَ، فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَاَللَّهِ أَخَذَ لِي حَقِّي.
وَجَاءَ الرَّجُلُ الَّذِي بَعَثُوا مَعَهُ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ! مَاذَا رَأَيْت؟
قَالَ: عَجَبًا مِنْ الْعَجَبِ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ إلَيْهِ وَمَا مَعَهُ رُوحُهُ فَقَالَ لَهُ: أَعْطِ هَذَا حَقَّهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، لَا تَبْرَحْ حَتَّى أُخْرِجَ إلَيْهِ حَقَّهُ، فَدَخَلَ فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقِّهِ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ.
ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَبُو جَهْلٍ أَنْ جَاءَ، فَقَالُوا لَهُ: وَيْلَكَ! مَا لَكَ؟ وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَنَعْتُ قَطُّ!
قَالَ: وَيْحَكُمْ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيَّ بَابِي، وَسَمِعْتُ صَوْتَهُ، فَمُلِئَتْ رُعْبًا، ثُمَّ خَرَجْتُ إلَيْهِ، وَإِنَّ فَوْقَ رَأْسِهِ لَفَحْلًا مِنْ الْإِبِلِ، مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتِهِ، وَلَا قَصَرَتِهِ، وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، وَاَللَّهِ لَوْ أَبَيْتُ لَأَكَلَنِي.
النبي ﷺ يعلمنا الشجاعة:
كان ﷺ أشجعَ الناس في المعارك، وكان يتقدَّم الصفوف، ويقاتل بشجاعة وبسالة، وقد حَضَرَ النبي ﷺ الْمَوَاقِفَ الصَّعْبَةَ، وَفَرَّ الْكُمَاةُ وَالْأَبْطَالُ عَنْهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهُوَ ثَابِتٌ لَا يَبْرَحُ، وَمُقْبِلٌ لَا يُدْبِرُ وَلَا يَتَزَحْزَحُ، وَمَا شُجَاعٌ إِلَّا وَقَدْ أُحْصِيَتْ لَهُ فَرَّةٌ، وَحُفِظَتْ عَنْهُ جَوْلَةُ، سواه.
عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: "لقد رأيتُنا يومَ بدرٍ ونحن نلوذُ برسولِ اللهِ ﷺ، وهو أقرَبُنا إلى العَدُوِّ، وكان من أشَدِّ النَّاسِ يومَئذٍ بأسًا" أخرجه أحمد وابن أبي شيبة.
لقد كان ﷺ هو العَلَمَ الذى يُهتدى به فى الميدان، أشجع المجاهدين وأصبرهم، فهو الشجاع الرضيُّ الكريم الصبور، الذى يقف فى الهيجاء، ويحمل سيفه؛ ليُجيب كلَّ هيعة.
لقد كان ﷺ قويَّ الاحتمال مع شجاعة، ورباطة جأش، لقد جرح فى يوم أحد، واشتدَّت جراحه، فلم يَهن ولم يستكن.
وقد أراد المشركون قتله ﷺ فى معركة أحد، واضطرابها، فجاء أبيُّ بنُ خلف يريد قتله، وقد أَعدَّ لذلك عُدَّته منذ بدر الكبرى، إذ كان فى الأسرى، فلما كان أحد، ولم يكن للمسلمين، جاء وقد ادَّرع بالحديد، لا يرى منه إلا عينه؛ حتى لا يصيبه سيف أو رمح، وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا محمد، فاعترضه رجال من المسلمين، فقال محمد ﷺ الذى أنزف من دمه ما أنزف: ((خلُّوا طريقه))، وتناول الحربة من الحارث بن الصِّمَّة، وحملها، وانتفض بها انتفاضة تطايروا تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، فطعنه ﷺ فى عُنقه طعنة تدأدأ منها من فرسه مرارًا، وقيل: بل كَسَر ضلعًا من أضلاعه، فرجع إلى قريش يقول: "قتلنى محمد"، وهم يقولون: لا بأس عليك. فقال: لو كان يجمع الناس لقتلهم، أليس قد قال: أنا أقتلك، والله لو بصق عليَّ لقتلني، فمات فى سرف فى قفولهم إلى مكة المكرمة.
وقال رجلٌ للبراءِ رَضِيَ اللهُ عنه: "يا أبا عُمارةَ، أفرَرْتُم يومَ حُنَينٍ؟! قال: لا واللهِ، ما ولَّى رسولُ اللهِ ﷺ، ولكِنَّه خرج شُبَّانُ أصحابِه وأخفَّاؤهم - الأخفَّاءُ: المسارِعون المستعجِلون - حُسَّرًا - أي: بغيرِ دُروعٍ - ليس عليهم سلاحٌ أو كثيرُ سلاحٍ، فلَقُوا قومًا رُماةً لا يكادُ يَسقُطُ لهم سَهمٌ؛ جَمعَ هوازِنَ وبني نَصرٍ، فرشقوهم رشقًا ما يكادون يُخطِئون، فأقبَلوا هناك إلى رسولِ اللهِ ﷺ، ورسولُ اللهِ ﷺ على بغلتِه البيضاءِ، وأبو سفيانَ بنُ الحارِثِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ يقودُ به، فنزل فاستنصر، وقال: ((أنا النَّبيُّ لا كَذِب، أنا ابنُ عبدِ المطَّلِب))، ثمَّ صَفَّهم. رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي إسحاقَ قال: جاء رجلٌ إلى البراءِ، فقال: أكنتُم ولَّيتم يومَ حُنَينٍ يا أبا عُمارةَ؟! فقال: أشهَدُ على نبيِّ اللهِ ﷺ ما ولَّى، ولكِنَّه انطلق أخِفَّاءُ من النَّاسِ، وحُسَّرٌ إلى هذا الحيِّ من هوازِنَ، وهم قومٌ رماةٌ، فرمَوهم برَشقٍ من نَبلٍ كأنَّها رِجْلٌ – رِجلٌ؛ أي: جماعةٌ - من جرادٍ، فانكشفوا، فأقبل القومُ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، وأبو سفيانَ بنُ الحارِثِ يقودُ به بغلتَه، فنزل ودعا واستنصر، وهو يقولُ: ((أنا النَّبيُّ لا كَذِب، أنا ابنُ عبدِ المطَّلِب، اللَّهُمَّ نَزِّل نَصْرَك))، قال البراءُ: كنَّا واللهِ إذا احمرَّ البأسُ نتَّقي به، وإنَّ الشُّجاعَ منَّا للَّذي يحاذي به، يعني النَّبيَّ ﷺ أخرجه مسلم.
وعن العبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: شَهِدتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ حُنَينٍ، فلَزِمتُ أنا وأبو سفيانَ بنُ الحارِثِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ رسولَ اللهِ ﷺ، فلم نفارِقْه، ورسولُ اللهِ ﷺ على بغلةٍ له بيضاءَ أهداها له فروةُ بنُ نُفاثةَ الجُذاميُّ، فلمَّا التقى المسلمون والكُفَّارُ ولَّى المسلمون مُدبِرين، فطَفِق رسولُ اللهِ ﷺ يركُضُ بغلتَه قِبَلَ الكُفَّارِ، قال عبَّاسٌ: وأنا آخِذٌ بلِجامِ بغلةِ رَسولِ اللهِ ﷺ أكُفُّها؛ إرادةَ أن لا تُسرِعَ، وأبو سفيانَ آخِذٌ بركابِ رَسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: أيْ عبَّاس، نادِ أصحابَ السَّمُرةِ، فقال عبَّاسٌ - وكان رجلًا صَيِّتًا - أي: جهيرَ الصَّوتِ -: فقُلتُ بأعلى صوتي: أين أصحابُ السَّمُرةِ؟ قال: فواللهِ لكأنَّ عَطْفَتَهم حين سمعوا صوتي عَطفةُ البَقَرِ على أولادِها! فقالوا: يا لبَّيك يا لبَّيك! قال: فاقتتلوا والكُفَّارُ، والدَّعوةُ في الأنصارِ يقولون: يا معشَرَ الأنصارِ، يا معشَرَ الأنصارِ، قال: ثمَّ قَصُرت الدَّعوةُ على بني الحارِثِ بنِ الخزرجِ، فقالوا: يا بني الحارِثِ بنِ الخزرجِ، يا بني الحارثِ بنِ الخزرجِ، فنظر رسولُ اللهِ ﷺ وهو على بغلتِه كالمتطاوِلِ عليها إلى قتالِهم، فقال رسولُ اللهِ ﷺ هذا حينَ حَمِي الوطيسُ. أخرجه مسلم (1775) مطوَّلًا.