لقد تجلَّت رحمة النبي ﷺ بالمؤمنين في منِّ الله تعالى عليهم بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
النبي ﷺ بالمؤمنين رؤوف رحيم:
لقد امتنَّ الله تعالى على عباده بأن بعث فيهم النبيَّ ﷺ من أنفسهم؛ يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
قال الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (10/ 337): "فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنَّة ببعثة محمد ﷺ والتنويه بصفاته الجامعة للكمال، ومن أخصِّها حرصُه على هداهم، ورغبته في إيمانهم ودخولهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفًا رحيمًا بهم؛ ليعلموا أن ما لَقِيه الْمُعرِضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل، ما هو إلا استصلاح لحالهم. وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله تعالى مقارِنةً لبعثة رسوله ﷺ بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، بحيث جاء في هاتين الآيتين بما من شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدَّة، وعوملوا بالغلظة؛ تعقيبًا للشدَّة بالرفق، وللغلظة بالرحمة، وكذلك عادة القرآن، فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة؛ ليدخلها من وفَّقه الله إليها".
وقال السعدي في تفسيره (ص: 356): "يمتنُّ تعالى على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، ولا يأنفون عن الانقياد له، وهو ﷺ في غاية النُّصح لهم، والسعي في مصالحهم. {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}؛ أي: يشقُّ عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنِّتكم. {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} فيحبُّ لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}؛ أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم؛ ولهذا كان حقُّه مقدَّمًا على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره، وتوقيره".
لين قلبه ﷺ على أمَّته:
قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
قال ابن كثير في تفسيره (2/ 148): "يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا رَسُولَهُ ﷺ، مُمْتَنًّا عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا أَلَانَ بِهِ قَلْبَهُ عَلَى أُمَّتِهِ، الْمُتَّبِعِينَ لِأَمْرِهِ، التَّارِكِينَ لِزَجْرِهِ، وَأَطَابَ لَهُمْ لَفْظَهُ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}؛ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَكَ لَهُمْ لَيِّنًا لَوْلَا رَحْمَةُ اللَّهِ بِكَ وَبِهِمْ.
قَالَ قَتَادَةُ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} يَقُولُ: فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ... وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا خُلُقُ مُحَمَّدٍ ﷺ بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التَّوْبَةِ:128]... ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الْفَظُّ: الْغَلِيظُ، والْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا غَلِيظُ الْكَلَامِ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {غَلِيظَ الْقَلْبِ}؛ أَيْ: لَوْ كُنْتَ سيِّئَ الْكَلَامِ قَاسِيَ الْقَلْبِ عَلَيْهِمْ لَانْفَضُّوا عَنْكَ وَتَرَكُوكَ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَهُمْ عَلَيْكَ، وَأَلَانَ جَانِبَكَ لَهُمْ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ".
ومن رحمته بالمؤمنين أنه كان يجبر قلوب الناس والضعفاء ويسعى في حاجتهم؛ قال عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُكْثِرُ الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ" رواه النسائيُّ، وصحَّحه الألبانيُّ.
وروى البخاريُّ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الحَاجَةِ قَالَ: «اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ».
وقال ﷺ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ، أُعَلِّمُكُمْ" رواه أبو داود.
وأَتَاه رَجُلٌ، فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ - كِنَايَة عَنْ الْفَزَع، فالْفَرَائِص: جَمْع فَرِيصَة، وَهِيَ لَحْمَة تَرْتَعِد عِنْد الْفَزَع - فَقَالَ لَهُ: ((هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ؛ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ)) والْقَدِيد: اللَّحْم الْمُمَلَّح الْمُجَفَّف فِي الشَّمْس. رواه ابن ماجه، وصحَّحه الألبانيُّ.
وروى البخاريُّ ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» قَالَ: لَا، قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْ بِهَذَا» قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».
وروى البخاري ومسلم عن أبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي المَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: «دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ». فمن رحمته أنه ﷺ لم يوبِّخ هذا الأعرابي الذي بال في المسجد، وأمرهم أن يتركوه يكمل بولته، ثم أعلمه أن المساجد لا تصلح لما فعل؛ إنما هي للصلاة، والذكر، وقراءة القرآن.