رحمته ﷺ بالكافرين

لقد أرسل الله تعالى رسوله ﷺ رحمة للعالمين، من آمَن به أو لم يؤمن به على السواء؛ رحمةً للبشرية جمعاءَ؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].

وقد كان النبيُّ ﷺ حريصًا أشدَّ الحرص على هداية الناس، يرجو لهم الخير ورحمة الله تعالى، ويخشى عليهم عذابه وتحقُّق وعيده.

رحمته ﷺ وخوفه على الناس من عذاب الله تعالى:

روى البخاري ومسلم عَنْ جَابِرٍ – رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا، وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ - مَعْقِدُ الْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيل - عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي)).

يَضرِبُ النَّبيُّ ﷺ مَثَلًا لشِدَّةِ حِرصِه على هِدايةِ النَّاسِ، وشَفَقتِه ورَحمتِه ﷺ بهمْ، وشِدَّةِ عِنادِ النَّاسِ واتِّباعِهم لشَهواتِهم التي فيها هَلاكُهم برجُلٍ أوقَدَ نارًا، فلَمَّا أضاءَتْ هذه النَّارُ ما حَولَها، جعَل الفَراشُ والحَشَرات الطَّيَّارات، تَطلُبُ هذا الضَّوءَ ولا تَعلَمُ أنَّه نارٌ مُهلِكةٌ، فجعَلْنَ يَقَعْنَ فيها، وهذا الرَّجُلُ الذي أوقد النَّارَ بقَصدِ الإضاءةِ يحاوِلُ أن يمنَعَهنَّ من الدُّخولِ في النَّارِ؛ ولكِنَّه لا يستطيعُ، فيَغلِبْنَه، فيَدْخُلْنَ في النَّارِ.

يبيِّن النَّبيُّ ﷺ رحمته بالناس وسعيه واجتهاده لإنقاذهم مِن النَّارِ، وهم يتمادون في الباطل ويقعون في المعاصي والشهوات والعناد والكفر المؤدِّيَةِ إلى النَّارِ؛ كالفَراشِ ودَوابِّ الأرضِ التي تَتهافَتُ على النَّارِ.

ويقول تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ [التوبة: 128].

يمتنُّ الله تعالى على عباده بأن بعث فيهم هذا النبيَّ ﷺ من أنفسهم، يحرص على هدايتهم إلى الإيمان، ويكره لهم الشرَّ؛ رحمة بهم من الذُّلِّ والهوان، ومن الذنب والخطيئة والكفر ودخول جهنم.

تسلية الله تعالى لنبيِّه ﷺ في شدة حُزنه ورحمته بالمشركين:

لقد بلغت رحمة النبي بالناس والشفقة عليهم أن كاد الهم والحزن عليهم يقتله، فقال الله تعالى له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].

قال ابن كثير في تفسيره (5/ 137): "يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا رَسُولَهُ ﷺ فِي حُزْنِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ؛ لِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ، وَبُعْدِهِمْ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، وَقَالَ: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النحل: 127]، وَقَالَ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]. بَاخِعٌ؛ أَيْ: مُهْلِكٌ نَفْسَكَ بِحُزْنِكَ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ}؛ يَعْنِي: الْقُرْآنَ، {أَسَفًا} يَقُولُ: لَا تُهْلِكْ نَفْسَكَ أَسَفًا.

قَالَ قَتَادَةُ: قَاتِل نَفْسَكَ غَضَبًا وَحُزْنًا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَزَعًا. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ؛ أَيْ: لَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ؛ بَلْ أَبْلِغْهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ، فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ".

وقال السعديُّ في تفسيره (ص: 470): "ولما كان النبي ﷺ حريصًا على هداية الخلق، ساعيًا في ذلك أعظم السعي، فكان ﷺ يفرح ويُسَرُّ بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذِّبين الضالِّين؛ شَفَقةً منه ﷺ عليهم، ورحمةً بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الأخرى: {لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين}، وقال: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}، وهنا قال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}؛ أي: مُهلكها غمًّا وأسفًا عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرًا لهداهم؛ ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار؛ فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غمًّا وأسفًا عليهم، ليس فيه فائدة لك".

النبيُّ ﷺ رحمة مهداة للناس جميعًا:

لم تكن رحمته ﷺ مخصوصةً بالمؤمنين فقط؛ وإنما كانت للبرِّ والفاجر، والمؤمن والمنافق، والصديق والعدوِّ، فقد بُعِث ﷺ أمانًا للناس أجمعين؛ فوجوده بينهم كان حفظًا لهم من الهلاك؛ يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].

وقد شَمِلت رحمته ﷺ أعداءه من المشركين، فوسط ما كان يلاقيه منهم ﷺ هو وأصحابه، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا؛ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» رواه مسلم.

ويوم فتح مكة، لما قال سعدُ بنُ عبادةَ، وهو يرفع راية الجيش: اليوم يوم الملحمة، فأخذ النبيُّ ﷺ منه الراية، وأعطاها لولده قيس، وقال: «بل اليوم يوم المرحمة»، وأمر الجيش ألا يقاتل إلا من قاتله، فلما أظهره الله عليهم، تجلَّت رحمته في العفو عمن آذَوه ولم يكونوا يرقبون فيه ولا في المؤمنين إلًّا ولا ذِمَّة؛ فقال لهم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].

قال القرطبيُّ - رحمه الله - "تفسير القرطبيِّ" (11/ 350): "قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان محمدٌ ﷺ رحمةً لجميع الناس، فمن آمن به وصدَّق به، سَعِد، ومن لم يؤمن به، سَلِم مما لحق الأمم من الخسف والغرق".

وقال الشنقيطيُّ - رحمه الله – "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (4/ 250، 251): "قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}: ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - إِلَى الْخَلَائِقِ إِلَّا رَحْمَةً لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ جَاءَهُمْ بِمَا يُسْعِدُهُمْ وَيَنَالُونَ بِهِ كُلَّ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنِ اتَّبَعُوهُ، وَمَنْ خَالَفَ وَلَمْ يَتَّبِعْ فَهُوَ الَّذِي ضَيَّعَ عَلَى نَفْسِهِ نَصِيبَهُ مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ الْعُظْمَى. وَضَرَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِهَذَا مَثَلًا، قَالَ: لَوْ فَجَّرَ اللَّهُ عَيْنًا لِلْخَلْقِ غَزِيرَةَ الْمَاءِ، سَهْلَةَ التَّنَاوُلِ، فَسَقَى النَّاسُ زُرُوعَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ بِمَائِهَا، فَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ بِذَلِكَ، وَبَقِيَ أُنَاسٌ مُفَرِّطُونَ كُسَالَى عَنِ الْعَمَلِ، فَضَيَّعُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ، فَالْعَيْنُ الْمُفَجَّرَةُ فِي نَفْسِهَا رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَنِعْمَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ؛ وَلَكِنَّ الْكَسْلَانَ مِحْنَةٌ عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ حَرَمَهَا مَا يَنْفَعُهَا، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}[إبراهيم: 28]".

روى البخاري ومسلم عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها زوجِ النَّبيِّ ﷺ أنَّها قالت للنَّبيِّ ﷺ: ((هل أتى عليكَ يومٌ كان أشَدَّ من يومِ أُحُدٍ؟ فقال: لقَد لَقِيتُ مِن قَومِكِ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهم يَومَ العَقَبَةِ؛ إذْ عَرَضْتُ نَفسي على ابنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أرَدْتُ، فانطَلَقْتُ وأنا مَهمومٌ على وَجهي، فلم أستَفِقْ إلَّا بقَرنِ الثَّعَالِبِ، فرَفَعتُ رَأسي فإذا أنا بسَحابةٍ قد أظَلَّتني، فنَظَرتُ فإذا فيها جِبريلُ، فناداني، فقال: إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قد سمِعَ قَولَ قَومِك لك وما ردُّوا عليك، وقد بَعَث إليك ملَكَ الجِبالِ لتَأمُرَه بما شِئتَ فيهم، قال: فناداني مَلَكُ الجِبالِ وسَلَّم عَلَيَّ، ثمَّ قال: يا محمَّدُ، إنَّ اللهَ قد سمِعَ قَولَ قَومِك لك، وأنا مَلَكُ الجِبالِ، وقد بعثَني ربُّك إليكَ لتَأمُرَني بأمرِك، فما شِئتَ؛ إنْ شِئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبَينِ، فقال له رسولُ اللهِ ﷺ: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبُدُ اللهَ وَحدَه لا يُشرِكُ به شيئًا)) .

قال ابنُ حَجَر في فتح الباري (6/ 316): "في هذا الحديثِ بَيانُ شَفَقةِ النَّبيِّ ﷺ على قومِه، ومزيدِ صَبرِه وحِلمِه، وهو مُوافِقٌ لقَولِه تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وقَولِه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]".


للاستزادة


  1. التحرير والتنوير (19/ 110).
  2. تفسير ابن كثير (6/ 135).

اخترنا لكم


الرحمة رحمته ﷺ بالأطفال
رحمته ﷺ بالأطفال

لقد كان النبيُّ ﷺ الرحمةَ الْمُهداة للعالمين، وكانت تتجلَّى رحمته ﷺ في تعامله مع الأطفال، فكان النبي ﷺ يحبُّ الأطفال، يُلاطفهم ويلاعبهم، وكان رحيمًا ب (...)

الرحمة رحمته ﷺ
رحمته ﷺ

لقد أرسل الله تعالى رسوله ﷺ رحمة للعالمين، من آمَن به أو لم يؤمن به على السواء؛ رحمةً للبشرية جمعاءَ؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً (...)

الرحمة صور من رحمته ﷺ
صور من رحمته ﷺ

لقد أرسل الله تعالى رسوله ﷺ رحمة للعالمين، من آمَن به أو لم يؤمن به على السواء؛ رحمةً للبشرية جمعاءَ؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً (...)

الرحمة رحمته ﷺ بالجماد
رحمته ﷺ بالجماد

إن الرسول ﷺ كان له الخُلق السامي في التعامل بالرحمة مع جميع البشر والحيوانات؛ بل والجمادات، وللنبي ﷺ مواقفُ عظيمةٌ مع الجمادات، هي معجزات وأدلَّة واضح (...)