النبي ﷺ يعلمنا أن المسؤولية أمانة

حضَّ النبي ﷺ على اضطلاع كل شخص بمسؤوليته دون تقصير، فإنه مكلَّف بمسؤوليته، والقيام بها على خير وجه هو أمانة، وكلُّ إنسان مسؤولٌ عن شيء يُعتبَر أمانةً في عُنقه، سواء أكان حاكمًا أم محكومًا، أبًا أم أمًّا أم ابنًا، وسواء أكان مديرًا أم عاملًا، وسواء أكان مدرِّسًا أم طالبًا، فهو راعٍ ومسؤول عن رعيته، فالحكم أمانة، والقضاء أمانة، والإدارة في أيِّ مؤسسة أمانة، ومسؤولية الأسرة أمانة، وهكذا كل المسؤوليات والمناصب.

النبيُّ ﷺ يعلِّمنا أن المسؤولية أمانة:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلاَءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه البخاري ومسلم.

قال النووي في شرح مسلم (12/ 213): "قَالَ الْعُلَمَاءُ: الرَّاعِي هُوَ الْحَافِظُ الْمُؤْتَمَنُ الْمُلْتَزِمُ صَلَاحَ مَا قَامَ عَلَيْهِ، وَمَا هُوَ تَحْتَ نَظَرِهِ، فَفِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ تَحْتَ نَظَرِهِ شَيْءٌ، فَهُوَ مُطَالَبٌ بِالْعَدْلِ فِيهِ، وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمُتَعَلِّقَاتِه".

أمانة المسؤولية وعِظَمها:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ))، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: ((إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)) رواه البخاري.

قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري (1/ 138): "وقوله: (إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله) معناه: أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم؛ لقوله ﷺ: (كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)، فينبغي لهم تولية أهل الدين والأمانة؛ للنظر فى أمر الأمَّة، فإذا قلَّدوا غير أهل الدين، واستعملوا من يُعينهم على الجَور والظُّلم، فقد ضيَّعوا الأمانة التى فرَض الله عليهم، وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يؤتمن الخائن، ويُستخوَن الأمين)، وهذا إنما يكون إذا غلب الجهل، وضَعُف أهل الحقِّ عن القيام به ونُصرته".

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَة، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)) رواه مسلم.

قال النووي في شرح مسلم (12/ 210): "هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي اجْتِنَابِ الْوِلَايَاتِ، لَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ تِلْكَ الْوِلَايَةِ، وَأَمَّا الْخِزْيُ والندامة، فهو في حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا، أَوْ كَانَ أَهْلًا وَلَمْ يَعْدِلْ فِيهَا، فَيُخْزِيهِ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَفْضَحُهُ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَرَّطَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ، وَعَدَلَ فِيهَا، فَلَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ؛ كَحَدِيثِ (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ)، وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ هُنَا عَقِبَ هَذَا (أَنَّ الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ)، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا فَلِكَثْرَةِ الْخَطَرِ فِيهَا؛ حَذَّرَهُ ﷺ مِنْهَا، وَكَذَا حَذَّرَ الْعُلَمَاءُ، وَامْتَنَعَ مِنْهَا خَلَائِقُ مِنَ السَّلَفِ، وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى حِينَ امْتَنَعُوا".

جزاء من لم يقم بأمانة مسؤوليته:

روى البخاري ومسلم عَنِ الحَسَنِ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ». (يسترعيه رعية): يستحفظه عليها. (لم يحطها): لم يتعهد أمرها ويحفظها. (لم يجد رائحة الجنة) لم يشم رائحتها، وهو كناية عن عدم دخولها إن استحلَّ ذلك أو تأخَّر دخوله إن اعتقد حرمة فعله.

قال بدر الدين العيني في عمدة القاري (24/ 228): "قَوْله: (استرعاه)؛ أَي: استحفظه. قَوْله: (فَلم يَحُطْهَا): من الحياطة، وَهِي الْحِفْظ والتعهُّد؛ أَي: لم يحفظها وَلم يتعهَّد أمرهَا. قَوْله: (إلاَّ لم يجد رَائِحَة الْجنَّة)، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (إلَّا حرَّم الله عَلَيْهِ الْجنَّة)، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد الله بن مُغفل: (وَعَرْفُهَا يُوجد يَوْم الْقِيَامَة من مسيرَة سبعين عَامًا)".

وروى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الْأَمِينَ الَّذِي يُنْفِذُ - وَرُبَّمَا قَالَ يُعْطِي - مَا أُمِرَ بِهِ، فَيُعْطِيهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا، طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ - أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ». (كاملا موفَّرًا): تامًّا لا يَنقُص منه شيئًا، وأن يُعطيَه لمن أُمِر بدفعه إليه. (طيبة به نفسه): راضٍ بذلك غير حاسد لمن أعطاه إياه. (أحد المتصدقين): له مثل أجر المتصدِّق.

قال ابن حجر في فتح الباري (3/ 304): "وَلَهُ مِثْلُهُ؛ أَيْ: مِثْلُ أَجْرِهَا، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ؛ أَيْ: بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي تَسَاوِيَهُمْ فِي الْأَجْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ حُصُولَ الْأَجْرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ أَجْرُ الْكَاسِبِ أَوْفَرَ؛ لَكِنَّ التَّعْبِيرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ بِقَوْلِهِ: (فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ) يُشْعِرُ بِالتَّسَاوِي، وَقَدْ سَبَقَ قَبْلُ بِسِتَّةِ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ أَيْضًا، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: (لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ)، وَالْمُرَادُ عَدَمُ الْمُسَاهَمَةِ وَالْمُزَاحَمَةِ فِي الْأَجْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ مُسَاوَاةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ الْأَمَانَةِ، وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ، وَطِيبُ النَّفْسِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْر".

للاستزادة


  1. فتح الباري لابن حجر (3/ 303).
  2. شرح النووي على مسلم (12/ 211).

اخترنا لكم


الأمانة النبي ﷺ يعلمنا خلق الأمانة
النبي ﷺ يعلمنا خلق الأمانة

قال الله تعالى: ﴿{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً (...)

الأمانة أمانته ﷺ
أمانته ﷺ

كان النبيُّ ﷺ الأسوةَ الحسنة، وكان مثالًا يُحتذى به في الأمانة، وهي صفة من أعظم الصفات التي اتَّصف بها الأنبياء والرسل - عليهم السلام - وقد تجلَّت أما (...)

الأمانة النبي ﷺ يعلمنا جزاء الأمانة
النبي ﷺ يعلمنا جزاء الأمانة

إن المسلم مأمور بأداء الأمانة والتَّحَلِّي بالأخلاق الحسنة والصفات الحميدة؛ فمَنْ عمل بذلك جُوزي بالجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة، ومن ترك الخيانة وال (...)

الأمانة النبي ﷺ يخبر عن رفع الأمانة
النبي ﷺ يخبر عن رفع الأمانة

الأمانة ضِدُّ الْخِيَانَةِ، وَالْمُرَادُ بِرَفْعِهَا إِذْهَابُهَا بِحَيْثُ يَكُونُ الْأَمِينُ مَعْدُومًا أَوْ شِبْهَ الْمَعْدُومِ، وفي آخر الزمان، تتغ (...)