عندما اقترب نزول الوحي على النبيِّ ﷺ، بدأت تَلُوحُ آثارُ النُّبُوَّةِ عليه ﷺ، وتهيئته لاستقبال الوحي، وكان أول ما بُدئ به الرؤيا الصادقة، ومن هذه العلامات والآثار: حُبُّ النَّبِيِّ ﷺ لِلْخَلْوَةِ، وتَسْلِيمُ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ على النَّبِيِّ ﷺ، وسَمَاعُ النَّبِيِّ ﷺ الصَّوْتَ وَرُؤْيَتُهُ الضَّوْءَ.
حُبُّ النَّبِيِّ ﷺ لِلْخَلْوَةِ:
لَمَّا قرب نزول الوحي على النبيِّ ﷺ، واقتربت سِنُّه ﷺ من الْأَرْبَعِينَ سنةً، حَبَّبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ الْخَلْوَةَ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ وَحْدَهُ في غار حِراءٍ - وهو غارٌ صَغيرٌ في جبَلٍ من جِبَالِ مكَّةَ يسمَّى (جبَل النُّورِ) - فكان يخلو فيه، ويتعبَّد فيه اللياليَ ذواتِ العدد، فتارة عشْرًا، وتارة أكثر من ذلك إلى شهر، ثم يعود إلى بيته، فلا يكاد يمكث فيه قليلًا حتى يتزوَّد من جديد لخَلْوة أخرى، ويعود الكَرَّة إلى غار حراء، وهكذا إلى أن جاءه الوحيُ وهو في إحدى خَلَواته تلك.
أخرج البخاريُّ (3) ومسلم (160) عَنْ عَائِشَةَ - رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ... ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ".
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا قَضَى جِوَارَهُ – أي: اعتكافه - مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ، كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ إِذَا انْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ الْكَعْبَةَ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجعُ إِلَى بَيْتِهِ، وَظَلَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ إِلَى أَنْ جَاءَهُ الْوَحْيُ.
تَسْلِيمُ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ:
إن رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى كَرَامَته، وَابْتَدَأَهُ بِالنُّبُوَّةِ، كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَبْعَدَ حَتَّى تَحَسَّرَ – أي: انكشف - عَنْهُ الْبُيُوتُ، وَيُفْضِي إِلَى شِعَابِ مَكَّةَ - الشِّعْبُ: ما انْفَرَجَ بينَ جَبَلَيْنِ – وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا، فَلَا يَمُرُّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَيَلْتَفِتُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَوْلَهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَشِمَالِهِ، وَخَلْفِهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا الشَّجَرَ وَالْحِجَارَةَ، فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عليهِ السَّلامُ بِمَا جَاءَهُ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ، وَهُوَ بِحِرَاءٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
أخرج مسلم (2277) عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ".
وأخرج الترمذيُّ (3954) والحاكم في المستدرك (4296) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بِمَكَّةَ، فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ، وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ".
قال الإمام السهيليُّ في "الرَّوْض الأُنُف" (1/ 399): "وهذا التَّسْليمُ الأظهَرُ فيه أَنْ يَكونَ حَقِيقةً، وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أنْطَقَهُ إنْطاقًا كما خَلَقَ الحَنِينَ في الجِذْعِ".
سَمَاعُ النَّبِيِّ ﷺ الصَّوْتَ وَرُؤْيَتُهُ الضَّوْءَ:
أخرج مسلم (2353) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: "أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، يَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَيَرَى الضَّوْءَ سَبْعَ سِنِينَ، وَلَا يَرَى شَيْئًا، وَثَمَانِ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ".
قال القاضي عياض: "أي: صَوْتَ الهَاتِفِ به مِنَ المَلائِكَةِ، ويرى الضَّوْءَ؛ أي: نُورَ المَلائِكَةِ، ونُورَ آياتِ اللَّه تَعَالَى حتى رَأى الْمَلَكَ بَعَيْنِهِ، وشَافَهَهُ بِوَحْيِ اللَّه تَعَالَى" .
أخرج الإمام أحمد في مسنده (2845) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِخَدِيجَةَ: "إِنِّي أَرَى ضَوْءًا وَأَسْمَعُ صَوْتًا، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جُنُنٌ"، فَقَالَتْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ يَا ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ أَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنْ يَكُ صَادِقًا، فَإِنَّ هَذَا نَامُوسٌ مِثْلُ نَامُوسِ مُوسَى، فَإِنْ بُعِثَ وَأَنَا حَيٌّ، فَسَأُعَزِّرُهُ، وَأَنْصُرُهُ، وَأُومِنُ بِهِ.
النَّامُوسُ: صَاحِبُ سِرِّ الخَيْرِ، أَرَادَ بهِ جِبْرِيلَ عليهِ السَّلامُ؛ لأنَّ اللَّه تَعَالَى خصَّهُ بالوَحْيِ والغَيْبِ اللَّذَيْنِ لا يَطَّلعُ عليهمَا غيرُه.