بعد ما حدث بين النبيِّ ﷺ وجبريلَ – عليه السلام – في أول لقاء بينهما وأول وحيٍ يتلقَّاه النبيُّ ﷺ، رجع إلى بيته فدخل على زوجته السيدة خديجة - رضي الله عنها.
السيدة خديجة نعم الزوجة الصالحة:
دخل النبيُّ ﷺ على زوجته الحنون كاملة العقل خديجة - رضي الله عنها - وفؤاده يرجف، فحكى لها ما حدث معه في الغار، وكان يظهر عليه الفَزَع والهلَع، وقال لها: "يا خديجةُ، لقد خشيت على نفسي"، فردَّت عليه بما يُريح فؤاده، ويهدِّئ من رَوعه، مما تَعلَمه من حُسن خُلقه، قالت: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتَكسِب المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق"، فمن كان بمثل هذه الأخلاق، فهل يُخزيه الله؟ كلا.
وكأنها تطبِّق الآية الكريمة قبل أن تنزل: ﴿{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}﴾ [الروم: 21]، فمَهمَّة الزوجة الصالحة الأولى أن تكون سكنًا لزوجها.
السيدة عائشة تحكي موقف السيدة خديجة العظيم:
تحكي السيدة عائشة الموقف في الحديث الذي أخرجه البخاريُّ (3) ومسلم (160) عن عائشةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قالت: "... فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" - أي: غَطُّونِي بالثياب، ولُفُّونِي بها - فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ – أي: الفَزَعُ - فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي"، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: "كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ".
ومعنى (زَمِّلُونِي)؛ أي: غَطُّونِي بالثياب، ولُفُّونِي بها. وذلك لشدَّةِ ما لَحِقَهُ من هَوْلِ الأمر، وجرَتِ العادة بسُكُونِ الرِّعْدَةِ بالتَّلْفِيفِ.
والكَلُّ: أصله الثِّقَلُ، ومنه قول اللَّه تَعَالَى: ﴿ {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}﴾ [النحل: 76]، ويدخُلُ في حَمْلِ الكَلِّ الإنفاقُ على الضَّعِيفِ، واليَتِيمِ، والعِيَالِ، وغير ذلك.
(وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ)؛ أي: تُعْطِي الناسَ ما لا يَجِدُونَهُ عندَ غيركَ مِنْ نفائسِ الفَوَائدِ، ومكارمِ الأخلاق، أو تَكْسِب المالَ العظيمَ الذي يَعْجِزُ عنه غيرُك، ثم تَجُود به في وجُوهِ الخيرِ وأبواب المكارم.
والنَّوَائِبُ: جمعُ ناِئبَةٍ، وهي الحَادِثَةُ، وإنما قَالَتْ: نوائِب الحقّ؛ لأن النائبةَ قد تكون في الخير، وقد تكونُ في الشّرِّ.
قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 17): "ثم استدلَّت بما فيه من الصفات الفاضلة، والأخلاق والشِّيَم على أن من كان كذلك لا يُخزى أبدًا، فعَلِمت بكمال عقلها وفِطرتها أن الأعمال الصالحةَ، والأخلاق الفاضلة، والشِّيَم الشريفة، تُناسب أشكالَها من كرامة الله وتأييده وإحسانه، ولا تُناسب الخِزْيَ والخِذلان؛ وإنما يُناسبه أضدادُها، فمن ركَّبه الله على أحسن الصفات، وأحسن الأخلاق والأعمال، إنما يَلِيق به كرامته، وإتمام نعمته عليه، ومن ركَّبه على أقبح الصفات، وأسوأ الأخلاق والأعمال، إنما يَليق به ما يُناسبها، وبهذا العقل والصديقية، استحقَّت أن يُرسل إليها ربُّها بالسلام منه مع رسولَيْهِ جبريلَ ومحمدٍ ﷺ".