كان من كمال عقل السيدة خديجة – رضي الله عنها – أنها ذهبت إلى ورقةَ بنِ نَوْفلٍ دون غيره، فلم تذهب إلى كاهن أو خادم للأصنام، أو إلى حكيم من حكماء العرب المشهورين؛ بل اختارت رجلًا كان قد تنصَّر عنده علم من الأديان السابقة.
ورقة بن نوفل :
هو ورقةُ بنُ نَوْفَلِ بنِ أَسَدِ بنِ عبد العُزَّى بنِ قُصيٍّ، أمُّه هندُ بنتُ أبي كَثيِرِ بنِ عبدِ العُزَّى، ابنُ عمِّ خديجةَ زوجِ النبيِّ ﷺ، وهُوَ أحد من اعتزل عبَادَة الْأَوْثَان، وَطلب الدِّين، وَقَرَأَ الكُتب، وَامْتنع من أكل ذَبَائِح الْأَوْثَان. ذكره الطّبريُّ، والبغويُّ، وابن قانع، وابن السَّكن، وغيرهم في الصحابة.
النبيُّ والسيدة خديجة ولقاء ورقة:
انطلقت السيدة خديجة – رضي الله عنها – بالنبيِّ ﷺ إلى ورقة، وكان شيخًا كبيرًا قد تنصَّر في الجاهلية، وكان مثل علماء أهل الكتاب في تلك الفترة يعلم أن نبيًّا سوف يظهر في هذا الزمان، وكان ينتظره، فلما سمع ما حدث بغار حراء، وهو يعرف النبيَّ ﷺ وأخلاقه، قال مباشرة دون تردُّد: هذا الناموس -يقصد جبريل عليه السلام - الذي أنزله الله - عز وجل - على موسى، وأخبره أنه نبيُّ هذه الأمة، ومن قوَّة علمه أظهر نيَّته الصادقة بالصبر على البلاء الذي سيحدث إن أدركه، فأقرَّ بنبوَّة النبيِّ ﷺ ونوى نُصرته، إلا أنه مات، ولم يُدرِك ذلك.
أخرج البخاريُّ (3) ومسلم (160) عن عائشةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قالت: "فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟»، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ – أي: لم يلبث - وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْي".
والناموس: أراد به جبريل - عليه السلام - لأن اللَّه تعالى خصَّه بالوحي والغَيب اللذين لا يطَّلع عليهما غيره.
والجَذَعُ: هو الصَّغيرُ منَ البَهائمِ، كأنه تمنَّى أن يكون عِنْدَ ظُهور الدُّعاء إلى الإسلام شَابًّا ليكونَ أمكَنَ لنَصْرِهِ.
وقد استبعدَ النبيُّ ﷺ أن يُخْرِجُوهُ؛ لأنه لم يكنْ فيه سببٌ يقتضِي الإخراجَ؛ لِما اشتملَ عليه مِنْ مَكارمِ الأخلاقِ التي تقدَّم من خديجةَ وصْفُهَا. ويحتمل أن يكون انزعاجُه كان مِنْ جِهةِ خَشْيَةِ فَواتِ ما أمَّلهُ من إيمانِ قومهِ باللَّه، وإنقاذِهِمْ من ضُرِّ الشِّرْكِ، وأدْنَاسِ الجاهليةِ، ومنْ عذابِ الآخرةِ، وليتمَّ لهُ المرادُ من إرساله إليهم، ويحتملُ أن يكونَ انْزَعَجَ منَ الأمْرَيْنِ مَعًا.