من المعلوم أن الصلاة فُرضت ليلةَ الإسراء والمعراج في السماء خمسَ صلوات في اليوم والليلة؛ إلَّا أن النبيَّ ﷺ والمسلمين كانوا يصلُّون قبل ذلك، لذا؛ لَمَّا سأل هِرَقْلُ أبا سفيان: ماذا يأمُرُكُمْ (أي: النبيُّ ﷺ)؟ قال أبو سفيان: "يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ وَالصِّلَةِ" رواه البخاريُّ (7).
هل كان المسلمون يصلون قبل فرض الصلوات الخمس؟
نعم، شُرعت الصلاة قبل فرضها خمس صلوات ليلة الإسراء والمعراج.
قال ابن رجب في "فتح الباري" (2/ 306): "وفيه دليل على أن الصلاة شُرعت من ابتداء النبوَّة؛ لكن الصلوات الخمس لم تُفرَض قبل الإسراء بغير خلاف".
كيفية الصلاة قبل فرضها خمس صلوات:
فُرِضت الصلاة ليلةَ الإسراء والمعراج خمس صلوات في اليوم والليلة، وكانت الصلاةُ قبل ذلك ركعتين أوَّل النهار وركعتين آخر النهار، وهناك أقوال أخرى في عددها وكيفيتها.
أخرج البخاريُّ (3935) عن عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: "فُرِضَتِ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَتُرِكَتْ صَلاَةُ السَّفَرِ عَلَى الأُولَى".
قال ابن حجر في "فتح الباري" (8/ 671): "فَإِنَّهُ ﷺ كَانَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ يُصَلِّي قَطْعًا، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ؛ لَكِنِ اخْتُلِفَ: هَلِ افْتُرِضَ قَبْلَ الْخَمْسِ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟ فَيَصِحُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْفَرْضَ أَوَّلًا كَانَ صَلَاةً قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَصَلَاةً قَبْلَ غُرُوبِهَا، وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه:130]، وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ"
وقال ابن حجر "فتح الباري" (1/ 465): "فَائِدَةٌ: ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ إِلَّا مَا كَانَ وَقَعَ الْأَمْرُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَذَهَبَ الْحَرْبِيُّ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ مَفْرُوضَةً رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعَشِيِّ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كَانَتْ مَفْرُوضَةً ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تيَسّر مِنْهُ﴾ [المزمل: 20]، فَصَارَ الْفَرْضُ قِيَامَ بَعْضِ اللَّيْلِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَاسْتَنْكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ ذَلِكَ وَقَالَ: "الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: ﴿فاقرءوا مَا تيَسّر مِنْهُ﴾ إِنَّمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: {وَآخَرُونَ يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله}[المزمل: 20] وَالْقِتَالُ إِنَّمَا وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ لَا بِمَكَّةَ، وَالْإِسْرَاءُ كَانَ بِمَكَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ" اهـ. وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ غَيْرُ وَاضِحٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ﴾ [المزمل: 20] ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَكَأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِتَعْجِيلِ التَّخْفِيفِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي علم أَنَّهَا ستقع لَهُم، وَالله أعلم".
افتراض قيام الليل:
فُرِض قِيَامُ الليْلِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وعَلَى الصحابة الكِرَامِ – رضوان الله عليهم - فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحَابُهُ حَوْلًا كَامِلًا حتَّى وَرِمَتْ أَقْدَامُهُمْ، حيث كانوا يصلون بالليل من غير تحديد، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى. . .﴾ [المزمل: 20]، فصَارَ قِيَامُ الليْلِ تَطَوُّعًا بعْدَ أن كان فريضةً.
أخرج مسلم (746) عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، قال: قُلْتُ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رسُول اللَّهِ ﷺ. قالَتْ: "أَلسْتَ تَقْرأُ: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ ؟"، قُلْتُ: بَلَى. قالَتْ: "فإنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - افْتَرَضَ قِيَامَ الليْلِ في أوَّل هذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ وَأصحابُهُ حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا - تعني أن آخر آية في سورة المزمل نزلت مُتَأخِّرَةً عمَّا قبلها - اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ، حتَّى أنْزَلَ اللَّهُ في آخِرِ هذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصارَ قِيَامُ الليْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ".
قال النَّوَوِيُّ في "شرح صحيح مسلم" (6/ 23): "ظَاهِرُهُ أَنَّهُ صَارَ تَطَوُّعًا فِي حَقِّ رسول اللَّهِ ﷺ والأُمَّةِ، فأمَّا الأُمَّةُ فهُوَ تَطَوُّعٌ في حَقِّهِمْ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا النَّبيُّ ﷺ فاختَلَفُوا في نَسْخِهِ في حَقِّهِ، والأصَحُّ عِنْدَنَا نَسْخُهُ".