كان الأرقم - رضي الله عنه- من السابقين الأولين، وكانت داره منتدى يجتمع فيه المسلمون، ويعبدون الله سرًّا، ويلقِّنهم النبيُّ ﷺ الإسلام وأصوله، ويتعهّدهم بالتربية، حتى كوَّن منهم جماعةً يستهينون بكلِّ الآلام والبلاءات في سبيل دينهم وعقيدتهم، وكان من يريد الإسلام يأتي إليها مستخفيًا خشيةَ أن يناله أذى قريش، وكانت هذه الدار عند جبل الصفا.
وكانت مدَّة ما أخفى النبيُّ ﷺ أمره ويدعو الناس فيها خفية بعد نزول ﴿يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدّثر: 1] ثلاث سنين، فكان من أسلم إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشعاب يستخفي بصلاته من المشركين.
سبب استِخْفَاء النَّبيِّ ﷺ والمُسْلِمِينَ في دَارِ الأَرْقَمِ:
كان اتِّخاذ دار الأرقم مقرًّا للقاء النبيِّ ﷺ بالمؤمنين بسبب المواجهة الأولى التي برز فيها سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - حيث كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يَأمُرُ أصْحَابَهُ بِالْتِزَامِ الحَيْطَةِ، والحَذَرِ، والتَّخَفِّي، وعَدَمِ الإعْلَانِ عَنِ الإِسْلَامِ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ أمْرَهُ، فكان أصحاب رسول الله ﷺ إذا صلُّوا، ذهبوا في الشِّعاب، فاستخفَوا بصلاتهم من قومهم، فبينما سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه - في نفر من أصحاب رسول الله ﷺ في شِعب من شعاب مكَّةَ، إذ ظهر عليه نفرٌ من المشركين وهم يصلُّون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعدُ بن أبي وقَّاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحْيِ بَعِير فشجَّه، فكان أولَ دم أُهريق في الإسلام. ولَحْيُ البَعِيرِ: همَا العَظْمَانِ اللذَنِ فِيهما الأسنانُ مِنْ داخِلِ الفَمِ، ويكونُ للإنسَانِ والدَّابَّةِ.
أخرج الحاكم (6169) في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ قَالَ: إنَّ سَعْدَ بنَ أَبِي وقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- أوَّلُ مَنْ أَهْرَاقَ دَمًا في سَبِيلِ اللَّهِ".
دار الأرقم مركز للدعوة:
هَذَا الحَادِثُ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى المُسْلِمِينَ خِلَالَ صَلاتِهمْ في الشِّعَابِ، حَمَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى نُصْحِ المُسْلِمِينَ بالتَّخَفِّي، والْتِزَامِ البُيُوتِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ حتَّى تَسْتَقِرَّ الأَحْوَالُ، وخَاصَّةً أَنَّ المُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ القُوَّةِ مَا يُوَاجِهُونَ بِهِ قُرَيْشًا، ودَخَلَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحَابهُ دَارَ الأَرْقَمِ بنِ أَبِي الأَرْقَمِ المَخْزُومِيِّ عَلَى الصَّفَا، وكَانَتْ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَعْيُنِ المُشْرِكِينَ ومَجَالِسِهِمْ، وبعد هذه الواقعة صار النبيُّ يجتمع بأصحابه في دار الأرقم مستخفين عن أعين قريش، وقَدْ بَقُوا عَلَى ذَلِكَ طِيلَةَ مُدَّةِ الدَّعْوَةِ السِّرِّيَّةِ.
أصبحت دار الأرقم السرية مركزًا جديدًا للدعوة يتجمَّع فيه المسلمون، ويتلقَّون عن رسول الله ﷺ كلَّ جديد من الوحي، ويستمعون له ﷺ وهو يذكِّرهم بالله، ويتلو عليهم القرآن، ويضعون بين يديه كلَّ ما في نفوسهم وواقعهم، فيربِّيهم ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، فصارت هذه الثُّلَّة من المؤمنين هي نواةَ دعوة الإسلام، فهم الذين انطلقوا ينشرونه في كل الدنيا حتى ساد نور الله تعالى الأرض رغم الآلام والبلاءات والتحدِّيات ومواجتهم الكفر بشتى أنواعه، الذي كان يملأ الأرض ظلامًا وكفرًا وظلمًا وجورًا.
انتهاء الدعوة السرية:
استمرَّت الدعوة السرية ثلاث سنين، دعوة فردية سِرية، تتحاشى مواجهة المشركين، تكوَّنت خلالها جَمَاعَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ، تربَّت على العقيدة، والأُخُوَّةِ في الله، وبذل الجهد في الدعوة للإسلام وتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، ثُمَّ تَنَزَّلَ الوَحْيُ يُكَلِّفُ رسُولَ اللَّهِ ﷺ بِمُعَالَنَتِهِ قَوْمَهُ، ومُجَابَهَةِ بَاطِلِهِمْ، ومُهَاجَمَةِ أصْنَامِهِمْ جِهَارًا.