لقد كان النبي ﷺ مصابرًا لأعدائه، فمنذ أن كلِّف بالرسالة، واجه الكافرين بالدعوة والجهاد، وكان أشدَّ منهم إصرارًا، وأعظم صبرًا، حتى بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونشر دين الله تعالى في العالمين.
الصبر والمصابرة:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200].
والمصابرة هي مُفاعلة من الصبر، وقد أمر الله تعالى نبيَّه ﷺ والمؤمنين بمصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلُّوا من صبر المؤمنين، فعلى النبي ﷺ والمؤمنين أن يصابروهم ويجاهدوهم، فيظلُّون أصبرَ من أعدائهم وأقوى.
إن المصابرة هي مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار، فيجب أن يكون النبيُّ ﷺ والمؤمنون أثبت وأصبر من الأعداء، وإذا كان الباطل يُصِرُّ ويصبر ويمضي في طريق الباطل، فما أجدرَ الحقَّ أن يكون أشدَّ إصرارًا وأعظم صبرًا على الْمُضيِّ في طريق الحقِّ والإيمان!
قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير (4/ 208): " ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200]. خُتِمَتِ السُّورَةُ بِوِصَايَةٍ جَامِعَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تُجَدِّدُ عَزِيمَتَهُمْ، وَتَبْعَثُ الْهِمَمَ إِلَى دَوَامِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعَدُوِّ كَيْ لَا يُثَبِّطَهُمْ مَا حَصَلَ مِنَ الْهَزِيمَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ الَّذِي هُوَ جُمَّاعُ الْفَضَائِلِ وَخِصَال الْكَمَالِ، ثُمَّ بِالْمُصَابَرَةِ وَهِيَ الصَّبْرُ فِي وَجْهِ الصَّابِرِ، وَهَذَا أَشَدُّ الصَّبْرِ ثَبَاتًا فِي النَّفْسِ، وَأَقْرَبُهُ إِلَى التَّزَلْزُلِ، ذَلِك أَنَّ الصَّبْرَ فِي وَجْهِ صَابِرٍ آخَرَ شَدِيدٌ عَلَى نَفْسِ الصَّابِرِ لِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ قِرْنٍ لَهُ فِي الصَّبْرِ قَدْ يُسَاوِيهِ أَوْ يَفُوقُهُ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُصَابِرَ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى صَبْرِهِ حَتَّى يَمَلَّ قِرْنُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجْتَنِي مِنْ صَبْرِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ نَتِيجَةَ الصَّبْرِ تَكُونُ لِأَطْوَلِ الصَّابِرِينَ صَبْرًا... فَالْمُصَابَرَةُ هِيَ سَبَبُ نَجَاحِ الْحَرْبِ".
قال السعدي في تفسيره (ص: 162): "ثم حضَّ المؤمنين على ما يوصلهم إلى الفلاح، وهو: الفوز والسعادة والنجاح، وأن الطريق الموصل إلى ذلك لزوم الصبر، الذي هو حبس النفس على ما تكرهه، من ترك المعاصي، ومن الصبر على المصائب، وعلى الأوامر الثقيلة على النفوس، فأمرهم بالصبر على جميع ذلك، والمصابرة؛ أي: الملازمة والاستمرار على ذلك، على الدوام، ومقاومة الأعداء في جميع الأحوال، والمرابطة: وهي لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه، وأن يراقبوا أعداءهم، ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم؛ لعلهم يُفلحون: يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي والأخروي، وينجون من المكروه كذلك. فعُلم من هذا أنه لا سبيل إلى الفلاح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة المذكورات، فلم يفلح من أفلح إلا بها، ولم يَفُتْ أحدًا الفلاح إلا بالإخلال بها أو ببعضها".
حكم مُصَابَرَةُ النبيِّ ﷺ الْعَدُوَّ الزَّائِدَ عَلَى الضِّعْفِ:
مِمَّا فُرِضَ عَلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ دُونَ أُمَّتِهِ مُصَابَرَةُ الْعَدُوِّ وَإِنْ كَثُرَ وَزَادَ عَلَى الضِّعْفِ؛ لأن الرَّسُول ﷺ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى؛ قَال تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس﴾ [المائدة: 67].
قال السيوطيُّ في الخصائص الكبرى (2/ 400): "بَاب اخْتِصَاصه ﷺ بِوُجُوب مصابرة الْعَدوِّ وَإن كَثُر عَددهم، وَوُجُوب تَغْيِير الْمُنكر، وَلَا يسْقط للخوف، بِخِلَاف غَيره من الأمة فيهمَا: وَوجه الْأَمريْنِ أن الله تَعَالَى وعده بِالْحِفْظِ والعصمة؛ فَقَالَ: {وَالله يَعْصِمك من النَّاس}، فَلم يَكُونُوا يَصِلونَ إِلَيْهِ بِسوء، قَلُّوا اَوْ كَثُرُوا".
قال مصطفى السيوطي الرحيباني في مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (5/ 31): "وَجَبَ عَلَيْهِ أَيْضًا (مُصَابَرَةُ عَدُوٍّ كَثِيرٍ) إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الضِّعْفِ (لِلْوَعْدِ بِالنَّصْرِ)؛ أَيْ: لِأَنَّهُ مَوْعُودٌ بِالْعِصْمَةِ وَالنَّصْرِ؛ بَلْ رَوَى الدَّمِيرِيِّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ نَبِيٌّ أُمِرَ بِالْقِتَالِ".
وقال بدر الدين العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (18/ 252): "وَأما سيدنَا رَسُول الله ﷺ فَيجب عَلَيْهِ مصابرة الْعَدو الْكثير؛ لِأَنَّهُ مَوْعُود بالنصر كَامِل الْقُوَّة".