قال ﷺ: «خيرُكُم خيرُكُم لأهْلِهِ، وأنا خيرُكُم لأهْلِي» رواه الترمذيُّ وقال: حديث حسن صحيح، وإذا كان الله تعالى قد قال للنبيِّ ﷺ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، فسنرى في هذه المقالة جزءًا من حسن خُلقه ﷺ مع أهله.
أكبر الأدلة على حُسن خُلقه ﷺ مع أهله:
من أكبر الأدلَّة على حُسن خُلقه ﷺ مع أهله أن أول من آمن به من البشر على الإطلاق كانت زوجَه خديجةَ – رضي الله عنها – دون أن ترى معجزات، أو أن يتنزَّل القرآن؛ بل كان دليلها على صدق نبوَّته ﷺ ما رأته من عظم أخلاقه، وكريم خلاله ومكارمه؛ فعندما رجع إليها من غار حراءَ خائفًا، قالت له: «كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيك الله أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» رواه البخاريُّ ومسلم.
سيرته ﷺ مع أهله:
قال ابن القيم في زاد المعاد (1/ 146): "وكانت سيرته مع أزواجه حُسنَ المعاشرة، وحُسن الخُلق، وكان يسرِّب إلى عائشة بناتِ الأنصار يلعبن معها، وكان إذا هَوِيت شيئًا لا محذورَ فيه، تابعها عليه، وكانت إذا شربت من الإناء، أخذه فوضع فمَه في موضع فَمِها وشَرِب، وكان إذا تعرَّقت عَرْقًا - وهو العظمُ الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتَّكِئ في حجرها، ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها، وربما كانت حائضًا.
وكان يأمرها وهي حائض فتتَّزِر ثم يباشرها، وكان يقبِّلها وهو صائم، وكان من لطفه وحُسن خُلقه مع أهله أنه يمكِّنها من اللعب، ويريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده، وهي متَّكِئة على مَنكِبَيه تنظر، وسابَقَها في السَّفَر على الأقدام مرتين، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة. وكان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيَّتُهن خرج سهمها خرج بها معه، ولم يقض للبواقي شيئًا، وإلى هذا ذهب الجمهور.
وكان يقول: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»، وربما مدَّ يده إلى بعض نسائه في حضرة باقيهن.
وكان إذا صلَّى العصر دار على نسائه، فدنا منهن واستقرأ أحوالهن، فإذا جاء الليل انقلب إلى بيت صاحبة النوبة فخصَّها بالليل. وقالت عائشة: «كان لا يفضِّل بعضنا على بعض في مُكثه عندهن في القسم، وقلَّ يوم إلا كان يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو في نوبتها فيبيت عندها»".
حسن عشرته ﷺ مع زوجاته:
سُئلت السيدة عائشة - رضي الله عنها -: ما كان ﷺ يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مِهنَة – أي: خدمة – أهلِه، فإذا حضرت الصلاةُ، خَرَج إلى الصلاة"، وفي رواية لأحمد: "كان بَشَرًا من البشر، يَفْلي ثوبه، ويحلِب شاته، ويَخْدُمُ نفسَه" رواه البخاريُّ وأحمد.
وكان ينادي زوجه بترخيم اسمها؛ تحبُّبًا إليها؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا عَائِشُ، هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ» قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. قَالَتْ: وَهُوَ يَرَى مَا لاَ أَرَى. رواه البخاريُّ ومسلم.
وعَنْها أيضًا قَالَتْ: «كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ ﷺ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ، فَيَشْرَبُ، وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ ﷺ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ» رواه مسلم.
ومن رعايته وعنايته ﷺ بمشاعر أمهات المؤمنين أنه كان يعلم رضاها وغضبها من مجرَّد كلامها؛ روى البخاريُّ ومسلم عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى» قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: « أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ » قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ.
ومن تقرُّبه لنسائه وتحبُّبه إليهم مع دوام الودِّ ما روته عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ» رواه البخاريُّ ومسلم، وعَنْها: «أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ قَبَّلَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ». رواه أبو داود وصحَّحه الألبانيُّ.
وكان ﷺ يسعى لإدخال السرور على أهله؛ فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: «تَقَدَّمُوا» فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ لِي: «تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ» فَسَابَقْتُهُ، فَسَبَقْتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ، خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: «تَقَدَّمُوا» فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ» فَسَابَقْتُهُ، فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: «هَذِهِ بِتِلْكَ». رواه أحمد والنسائيُّ وصحَّحه الألبانيُّ.
ولما رجع ﷺ من غزوة خيبر، وبنى بصَفيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ كان يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ. رواه البخاريُّ.
وكان ﷺ يُراضي زوجاتِه ويعدل بينهن؛ فعن عائشة - رضي الله عنها – قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ" رواه البخاريُّ ومسلم.
وكان ﷺ يتعاهد أهله بالتعليم والتوجيه والدلالة على الخير: روى مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ».
وفاؤه ﷺ لأهله:
وكان ﷺ يرعى حقَّ زوجته وفاءً لها، حتى بعد موتها؛ روى البخاريُّ: عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ ﷺ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا؛ وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: «إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ».