وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ

من فضائل النبيِّ ﷺ أنَّ الله تعالى فضَّله على سائر الأنبياء والمرسلين: فقد أجمعت الأمة بأنَّ نبيَّنا محمدًا ﷺ هو أفضل الأنبياء في الدنيا والآخرة، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/161): "أفضلُ أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضلُ أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضل المرسلين أولو العزم؛ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ﷺ... وأفضل أُولي العزم محمدٌ ﷺ، خاتم النبيين، وإمام المتقين، وسيد ولد آدم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود، الذي يغبطه به الأَوَّلون والآخِرون، وصاحب لواء الحمد، وصاحب الحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة والفضيلة، الذي بعثه بأفضل كُتُبِه، وشَرَعَ له أفضلَ شرائع دينه".

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ:

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا * مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب: 39، 40].

قال ابن كثير في تفسيره (6/ 427): "يَمْدَحُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ﴾ ؛ أَيْ: إِلَى خَلْقِهِ وَيُؤَدُّونَهَا بِأَمَانَتِهَا، {وَيَخْشَوْنَهُ}؛ أَيْ: يَخَافُونَهُ وَلَا يَخَافُونَ أَحَدًا سِوَاهُ، فَلَا تَمْنَعُهُمْ سَطْوَةُ أَحَدٍ عَنْ إِبْلَاغِ رِسَالَاتِ اللَّهِ، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ أَيْ: وَكَفَى بِاللَّهِ نَاصِرًا وَمُعِينًا. وَسَيِّدُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ -بَلْ وَفِي كُلِّ مَقَامٍ -مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ فَإِنَّهُ قَامَ بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَإِبْلَاغِهَا إِلَى أَهْلِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، إِلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ بَنِي آدَمَ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ كَلِمَتَهُ وَدِينَهُ وَشَرْعَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَأَمَّا هُوَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ بُعث إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، عَرَبهم وَعَجَمِهِمْ، ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الْأَعْرَافِ: 158] ، ثُمَّ وَرِثَ مَقَامَ الْبَلَاغِ عَنْهُ أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَكَانَ أَعْلَى مَنْ قَامَ بِهَا بَعْدَهُ أَصْحَابُهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بَلَّغُوا عَنْهُ كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وحَضَره وَسَفَرِهِ، وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ثُمَّ وَرِثَهُ كُلُّ خَلَفٍ عَنْ سَلَفِهِمْ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فَبِنُورِهِمْ يَقْتَدِي الْمُهْتَدُونَ، وَعَلَى مَنْهَجِهِمْ يَسْلُكُ الْمُوَفَّقُونَ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ الْمَنَّانَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ خَلَفِهِمْ".

رَسُول اللَّهِ وَخَاتَم النَّبِيِّينَ:

قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ .

هَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ ﷺ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَإِذَا كَانَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ لِأَنَّ مَقَامَ الرِّسَالَةِ أَخَصُّ مِنْ مَقَامِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ كُلَّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَا يَنْعَكِسُ.

قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير (22/ 45): "وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ خَاتَمَ النَّبِيئِينَ وَأَنه لَا نبيء بَعْدَهُ فِي الْبَشَرِ... وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَعُرِفَ ذَلِكَ وَتَوَاتَرَ بَيْنَهُمْ وَفِي الْأَجْيَالِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَرَدَّدُوا فِي تَكْفِيرِ مُسَيْلِمَةَ وَالْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ فَصَارَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ كَافِرٌ خَارِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَسُولُ اللَّهِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ".

وَبِذَلِكَ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نذكر منها:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ" رواه البخاريُّ ومسلم.

عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنِ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ، فَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ))، قَالَ: فشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ: قَالَ: ((وَلَكِنَّ الْمُبَشِّرَاتِ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: ((رُؤْيَا الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ)) رواه أحمد والترمذيُّ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ)) رواه مسلم.

عَنِ العِرْباض بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لمنْجَدِل فِي طِينَتِهِ" رواه أحمد.

عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ تَعَالَى بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ" رواه البخاريُّ ومسلم.

قال ابن كثير في تفسيره (6/ 430): "وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، فَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادِ إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، إِلَيْهِمْ، ثُمَّ مِنْ تَشْرِيفِهِ لَهُمْ خَتْمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ بِهِ، وَإِكْمَالُ الدِّينِ الْحَنِيفِ لَهُ. وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَرَسُولِهِ فِي السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنِ ادعى هذا المقام بعده فَهُوَ كَذَّابٌ أَفَّاكٌ، دَجَّالٌ ضَالٌّ مُضِلٌّ".


للاستزادة


  1. تفسير ابن كثير (6/ 427).
  2. التحرير والتنوير (22/ 43).

اخترنا لكم


دلائل النبوة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ
الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ

قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِ (...)

دلائل النبوة إتيان جبريل إلى النبي ﷺ على صورته
إتيان جبريل إلى النبي ﷺ على صورته

لقد تعدَّدت أنواع الوحي، إلا أن معظم الوحي كان من خلال أمين الوحي جبريلَ – عليه السلام – ولكنه كان يأتي للنبيِّ ﷺ في صور متعدِّدة، ولم يره النبيُّ ﷺ ع (...)

دلائل النبوة آيات رآها النبي ﷺ  في طريقه إلى بيت المقدس
آيات رآها النبي ﷺ في طريقه إلى بيت المقدس

قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ (...)

دلائل النبوة إقسام الله تعالى بحياته ﷺ
إقسام الله تعالى بحياته ﷺ

القسَم دائمًا يكون بمعظَّم لدى الْمُقسِم، وإذا أقسم الله تعالى بشيء، فإن هذا القسم يكون تعظيمًا لهذا الشيء وتشريفًا له من قِبَل الله تعالى، وقد أقسم ا (...)