وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى

كان النبيُّ ﷺ لسانه الشريف لا ينطق إلا بالحقِّ؛ فَلَمْ يَكُنْ ﷺ يَنْطِقُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ؛ بَلْ إِنَّمَا كَانَ نُطْقُهُ بِالْوَحْيِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4].

وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى:

قال ابن كثير في تفسيره (7/ 443): "قَالَ: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ ؛ أَيْ: مَا يَقُولُ قَوْلًا عَنْ هَوًى وَغَرَضٍ، ﴿إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ ؛ أَيْ: إِنَّمَا يَقُولُ مَا أُمِرَ بِهِ، يُبَلِّغُهُ إِلَى النَّاسِ كَامِلًا موفَّرًا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ".

قال السعديُّ في تفسيره (ص: 818): " ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ ؛ أي: ليس نُطقه صادرًا عن هوى نفسه، ﴿إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾؛ أي: لا يتَّبِع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى، في نفسه وفي غيره. ودلَّ هذا على أن السُّنَّة وحيٌ من الله لرسوله ﷺ؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ ، وأنه معصوم فيما يُخبر به عن الله تعالى وعن شرعه؛ لأن كلامه لا يَصدُر عن هوى؛ وإنما يصدر عن وحيٍ يوحى".

قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير (27/ 93): "وَالْهَوَى: مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى مَا تُحِبُّهُ أَوْ تُحِبُّ أَنْ تَفْعَلَهُ دُونَ أَنْ يَقْتَضِيَهُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ الْحَكِيمُ، وَلِذَلِكَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي الْهَوَى وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي الْحَقِّ، وَقَدْ يُحِبُّ الْمَرْءُ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ. فَالْمُرَادُ بِالْهَوَى إِذَا أُطْلِقَ أَنَّهُ الْهَوَى الْمُجَرَّدُ عَنِ الدَّلِيلِ.

وَنَفْيُ النُّطْقِ عَنْ هَوًى يَقْتَضِي نَفْيَ جِنْسِ مَا يَنْطِقُ بِهِ عَنِ الِاتِّصَافِ بِالصُّدُورِ عَنْ هَوًى، سَوَاءٌ كان القرآن أَو غيره مِنَ الْإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ بِالتَّعْلِيمِ وَالْخَطَابَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْحِكْمَةِ؛ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّهُ سَبَبُ هَذَا الرَّدِّ عَلَيْهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ تَنْزِيهَهُ ﷺ عَنِ النُّطْقِ عَنْ هَوًى يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ أَوْ يَحْكُمَ عَنْ هَوًى؛ لِأَنَّ التَّنَزُّهَ عَنِ النُّطْقِ عَنْ هَوًى أَعْظَمُ مَرَاتِبِ الْحِكْمَةِ. وَلِذَلِكَ؛ وَرَدَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ "أَنَّهُ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا".

إن هو ألا وحي يوحى:

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4].

قال القرطبيُّ في تفسيره (17/ 85): "وَفِيهَا أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ كَالْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ فِي الْعَمَلِ".

عن عبد الله بن عمرٍو - رضي الله عنهما - قال: "كنت أكتُب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله ﷺ بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: ((اكتُب؛ فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منه إلا حقٌّ)) رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح.

وعنه أيضًا - رضي الله عنه - أنه قال: "يا رسول الله، أكتب ما أسمع منك؟ قال: ((نعم))، قلت: عند الغضب وعند الرضا؟ قال: ((نعم؛ إنه لا ينبغي لي أن أقول إلا حقًّا)) رواه الحاكم بإسناد صحيح.

وعن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا؟ قال: ((إني لا أقول إلا حقًّا)) رواه أحمد والترمذيُّ، وقال: حسن صحيح.

قال ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن (ص: 153): "ثم قال سبحانه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4]، ينزِّه نُطق رسوله أن يصدر عن هوى، وبهذا الكمال هداه ورشده، وقال: ﴿وما ينطق عن الهوى﴾ ، ولم يقل: وما ينطق بالهوى؛ لأن نُطقه عن الهوى أبلغ؛ فإنه يتضمَّن أن نُطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يَصدُر عن هوًى، فكيف ينطق به؟! فتضمَّن نفيُ الأمرين نفيَ الهوى عن مصدر النُّطق، ونفيه عن نفسه، فنُطقه بالحقِّ، ومصدره الهدى والرشاد، لا الغيُّ والضلال

 ثم قال: ﴿إن هو إلا وحي يوحى﴾ فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل؛ أي: ما نُطقه إلا وحيٌ يوحى، وهذا أحسن من قول من جعل الضمير عائدًا إلى القرآن، فإنه يعمُّ نُطقه بالقرآن والسُّنة، وإن كِلَيهما وحيٌ يوحى، وقد احتجَّ الشافعيُّ لذلك فقال: لعل من حُجَّة من قال بهذا قوله: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة}".

قال ابن كثير في تفسيره (2/ 363): "{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (81)}: يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِأَنَّهُ مَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى".

للاستزادة


  1. التبيان في أقسام القرآن (ص: 153).
  2. التحرير والتنوير (27/ 93).

اخترنا لكم


دلائل النبوة حادثة شقِّ صدر النبي ﷺ
حادثة شقِّ صدر النبي ﷺ

كان النبيُّ ﷺ يُعِدُّه ربُّه على عينه منذ نشأته لتحمُّل الرسالة ومَشاقِّها، وما تحتاجه من قوة الإيمان، والأخلاق الحسنة، ونقاء القلب والصدر، وطيب الظاه (...)

دلائل النبوة تقديم نبوته ﷺ قبل خلق آدم
تقديم نبوته ﷺ قبل خلق آدم

كانت نبوَّة النبي ﷺ مذكورةً معروفة من قبل أن يَخلُقه الله تعالى ويُخرجه إلى دار الدنيا حيًّا، وكان ذلك مكتوبًا في أمِّ الكتاب من قبل نفخ الروح في آدم (...)

دلائل النبوة آيات رآها النبي ﷺ  في طريقه إلى بيت المقدس
آيات رآها النبي ﷺ في طريقه إلى بيت المقدس

قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ (...)

دلائل النبوة عصمة النبي ﷺ من كيد الكائدين
عصمة النبي ﷺ من كيد الكائدين

لقد تكفَّل الله تعالى بعصمة نبيِّه ﷺ؛ قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]، وهذا عهد من الله تعالى لنبيِّه ﷺ بحمايته وعصمته (...)