ما سُمع من الجنّ والكهّان بالإخبار عن نبوّته ﷺ

لقد مهَّد الله تعالى لبعثة نبيِّه ﷺ بإرهاصات وعلامات منذ ولادته، ولَمَّا كان قُبيل بعثته ﷺ ترادفت عليه علامات نبوَّته وتكاثرت، وحدَّث بها الكهَّان بما تأتيهم به شياطينهم من استراق السمع.

إخبار الكهَّان والجانِّ ببعثته ﷺ:

كان الجنُّ يسترقون السمع فيأخذون الكلمة والكلمتين من الحقِّ ثم يُلْقون بها إلى أوليائهم من الإنس، وهم الكُهَّان، فيخلطونها بكهانتهم، ومن هذا ما كان من الأخبار عن بعثة النبيِّ ﷺ واقتراب زمانها.

ومن ذلك ما رواه البخاريُّ في "صحيحه": عَنْ عبد الله بن عُمَرَ قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَيْءٍ قَطُّ يَقُولُ: إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَذَا، إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ، "بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ، إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ، فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي، أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ، أَوْ: لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ، عَلَيَّ الرَّجُلَ، فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي، قَالَ: كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ، جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الفَزَعَ، فَقَالَتْ: (أَلَمْ تَرَ الجِنَّ وَإِبْلاَسَهَا؟ وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا، وَلُحُوقَهَا بِالقِلاَصِ، وَأَحْلاَسِهَا)، قَالَ عُمَرُ: صَدَقَ؛ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ، فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ، لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ: يَا جَلِيحْ، أَمْرٌ نَجِيحْ، رَجُلٌ فَصِيحْ، يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَوَثَبَ القَوْمُ، قُلْتُ: لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا، ثُمَّ نَادَى: يَا جَلِيحْ، أَمْرٌ نَجِيحْ، رَجُلٌ فَصِيحْ، يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقُمْتُ، فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ: هَذَا نَبِيٌّ"

(إبلاسها): تحيُّرها. (إنكاسها): انتكاسها وهو الانقلاب على الرأس. ومعناه: أنها يأست من استراق السمع بعد أن كانت قد ألفته فانقلبت عن الاستراق مذ يأست من السمع.

 (بالقِلاص) جمع قلوص، وهي الناقة الشابة. (أحلاسها): جمع حِلْس وهو كساء جلد يوضع علي ظهر البعير. (صارخ) يسمع صوته ولا ترى صورته. (جليح) اسم رجل ناداه به ومعناه الوقح الكاشف بالعداوة. (نجيح) من النجاح وهو الظفر بالحوائج. (فصيح) من الفصاحة وهي البيان وسلامة الألفاظ من الإبهام وسوء التأليف. (ما نشبنا) ما مكثنا وتعلقنا بشيء. (أن قيل) إذ ظهر القول بين الناس بخروج النبيِّ ﷺ.

من علامات نبوته ﷺ منع الشياطين من استراق السمع:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالَ: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا مَا حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي حَدَثَ، فَانْطَلَقُوا فَضَرَبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، يَنْظُرُونَ مَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، قَالَ: فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِنَخْلَةَ، «وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ الفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ تَسَمَّعُوا لَهُ»، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [الجن: 2] " وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ﴾ [الجن: 1] وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الجِنِّ" رواه البخاريُّ ومسلم.

ومن هواتف الجانِّ أيضًا: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: "أَوَّلُ خَبَرٍ جَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ بُعِثَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ لَهَا تَابِعٌ مِنَ الْجِنِّ جَاءَ فِي صُورَةِ طَيْرٍ، حَتَّى وَقَعَ عَلَى جِذْعٍ لَهُمْ، فَقَالَتْ لَهُ: أَلَا تَنْزِلُ إِلَيْنَا فَتُحَدِّثَنَا بِحَدِيثِكَ، وَتُخْبِرَنَا بِخَبَرِكَ، فَقَالَ: لَا، إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ نَبِيُّ بِمَكَّةَ حَرَّمَ الزِّنَا، وَمُنِعَ مِنَّا الْفِرَارُ" أخرجه أحمد وأبو نعيم في "الدلائل" وحسَّنه الألبانيُّ.


للاستزادة


  1. سيرة ابن هشام (1/ 207).
  2. السيرة النبوية لابن كثير (1/ 286).

اخترنا لكم


دلائل النبوة وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا

لقد أرسل الله تعالى رسوله ﷺ بالهدى ودين الحق، فمن اتبع هداه فاز في الدارين وأفلح، ومن خالفه ضلَّ وخسر الدنيا والآخرة؛ فقد قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوه (...)

دلائل النبوة صفات النبيِّ ﷺ الخَلْقية والخاتم بين كتفيه
صفات النبيِّ ﷺ الخَلْقية والخاتم بين كتفيه

حبا الله تعالى رسوله المرتضى، ونبيَّه المجتبى، وحبيبه المصطفى ﷺ بصفاتٍ عظيمة جليلة، سواء أكانت صفاتٍ خُلُقيةً ظهرت على سلوكه (...)

دلائل النبوة الأنبياء الذين لقيهم النبي ﷺ في السموات
الأنبياء الذين لقيهم النبي ﷺ في السموات

لقد لَقِيَ النبيُّ ﷺ عددًا من الأنبياء – عليهم السلام – في السموات السبع، فلماذا لقي هؤلاء الأنبياء دون غيرهم؟ (...)

دلائل النبوة إقسام الله تعالى بحياته ﷺ
إقسام الله تعالى بحياته ﷺ

القسَم دائمًا يكون بمعظَّم لدى الْمُقسِم، وإذا أقسم الله تعالى بشيء، فإن هذا القسم يكون تعظيمًا لهذا الشيء وتشريفًا له من قِبَل الله تعالى، وقد أقسم ا (...)