عصمة النبي ﷺ حين تعاقد المشركون على قتله

أرسل الله تعالى رسوله ﷺ برسالة الإسلام، ومعلومٌ ما أصاب الأنبياء والرسل من قبله من البلاءات والقتل، إلا أن الله تعالى قد عصم رسوله من أن يتسلَّط عليه المشركون ويقتلوه.

قال ابن كثير في تفسيره (3/ 151): "وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؛ أَيْ: بَلِّغْ أَنْتَ رسالتي، وأنا حافظك وناصرك ومؤيِّدك على أَعْدَائِكَ وَمُظَفِّرُكَ بِهِمْ، فَلَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ، فَلَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَيْكَ بِسُوءٍ يُؤْذِيكَ".

قتل الأنبياء – عليهم السلام – وعدم عصمتهم من ذلك:

لقد ابتُلي النبيُّ ﷺ بضروب المحن، وجرى عليه ما جرى على غيره من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إلا أنه ﷺ اختُصَّ بعصمة بدنه الشريف من القتل؛ فقد قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 67]، أما الأنبياء – عليهم السلام - فلم يُعصَموا من القتل، وقُتل الكثير منهم؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 91]،

وقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 183]. لقد تحدَّى الله تعالى المشركين أنهم مهما تعاقدوا وتآمروا على قتل النبيِّ ﷺ فلن ينالوا مُرادهم؛ حيث عصمه الله تعالى؛ إذ قال له: {واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، وهذا تحدٍّ لأعداء الرسالة بأوضح بيان، بأنه وإن وقع قتل الأنبياء من قَبْلِ رسول الله ﷺ بإذن الله تعالى، فهم مع رسول الله ﷺ مهما حاولوا قتله، فلم ولن يفلحوا؛ لأن الله تعالى عصم بدنه الشريف من القتل.

خصوصية عصمة النبى ﷺ فى بدنه من القتل:

قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 67].

قال ابن كثير في تفسيره (3/ 154): "وَمِنْ عِصْمَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ – لِرَسُولِهِ: حفْظُه لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَصَنَادِيدِهَا، وَحُسَّادِهَا ومُعَانديها وَمُتْرَفِيهَا، مَعَ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ والبَغْضة وَنَصْبِ الْمُحَارَبَةِ لَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، بِمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَظِيمَةِ بقَدَره وَحِكْمَتِهِ الْعَظِيمَةِ، فَصَانَهُ فِي ابْتِدَاءِ الرِّسَالَةِ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ؛ إِذْ كَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا كَبِيرًا فِي قُرَيْشٍ، وَخَلَقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةً طَبِيعِيَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَا شَرْعِيَّةً، وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ، لَاجْتَرَأَ عَلَيْهِ كُفَّارُهَا وَكِبَارُهَا؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي الْكُفْرِ، هَابُوهُ وَاحْتَرَمُوهُ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ، نَالَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ أَذًى يَسِيرًا، ثُمَّ قَيَّضَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُ الْأَنْصَارَ فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَى أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى دَارِهِمْ -وَهِيَ الْمَدِينَةُ - فَلَّمَا صَارَ إِلَيْهَا، حَمَوه مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، فَكُلَّمَا هَمَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِسُوءٍ، كَادَهُ اللَّهُ، وَرَدَّ كَيْدَهُ عَلَيْهِ، لَمَّا كَادَهُ الْيَهُودُ بِالسِّحْرِ، حَمَاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ سُورَتِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ دَوَاءً لِذَلِكَ الدَّاءِ، وَلَمَّا سَمَّ الْيَهُودُ فِي ذِرَاعِ تِلْكَ الشَّاةِ بِخَيْبَرَ، أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ وَحَمَاهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَلِهَذَا أَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ ذِكْرُهَا".

وقال السعدي في تفسيره (ص: 239): " ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67] هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من الناس، وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ، ولا يَثْنيك عنه خوف من المخلوقين، فإن نواصيَهم بيد الله، وقد تكفَّل بعصمتك، فأنت إنما عليك البلاغ المبين، فمن اهتدى فلنفسه، وأما الكافرون الذين لا قصد لهم إلا اتِّباع أهوائهم، فإن الله لا يهديهم ولا يوفِّقهم للخير؛ بسبب كفرهم".

تآمر المشركين وتعاقدهم على قتل النبيِّ ﷺ:

لقد تآمر المشركون وتعاقدوا على قتل النبيِّ ﷺ أكثرَ من مرَّة، ومن ذلك:

  •  عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قال: "إنَّ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ، فَتَعَاقَدُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى، وَنَائِلَةَ وَإِسَافٍ: لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّدًا، لَقُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ. فَأَقْبَلَتِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ تَبْكِي حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى النبيِّ ﷺ فَقَالَتْ: هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِكَ قَدْ تَعَاقَدُوا عَلَيْكَ، لَوْ قَدْ رَأَوْكَ لَقَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دِيَتِكَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، ائْتِنِي بِوَضُوئِي، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَا هُوَ ذَا، وَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ وَسَقَطَتْ أَذْقَانُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، وَعُقِروا فِي مَجَالِسِهِمْ، وَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى قَامَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ»، ثُمَّ حَصَبَهُمْ، فَمَا أَصَابَ رَجُلًا مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْحَصَى حَصَاةٌ إِلَّا قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ. رواه أحمد والحاكم وأبو نعيم في دلائل النبوة.
  •  وروى أبو نعيم في دلائل النبوة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى تَأَذَّى بِهِ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى قَامُوا لِيَأْخُذُوهُ وَإِذَا أَيْدِيهِمْ مَجْمُوعَةٌ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ وَإِذَا هُمْ عُمْيٌ لَا يُبْصِرُونَ فَجَاؤوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا: نَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إِلَّا وَلِلنَّبِيِّ ﷺ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَدَعَا النبيُّ ﷺ حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَنَزَلَتْ: ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [يس: 2] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ قَالَ: فَمَا آمَنَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ أَحَدٌ".
  •  وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَمَّا عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ كَانَتْ لَهُ شِيعَةٌ وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِ بَلَدِهِمْ وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِمْ، عَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا أَصَابُوا مِنْهُمْ مَنَعَةً، فَحَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَهِيَ دَارُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الَّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقْضِي أَمْرًا إِلَّا فِيهَا، فَيَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ خَافُوهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي اتَّعَدُوا لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمَّى الزَّحْمَةَ، اعْتَرَضَ لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي هَيْئَةِ رَجُلٍ شَيْخٍ جَلِيلٍ عَلَيْهِ بَتٌّ لَهُ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الدَّارِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا قَالُوا: مَنِ الشَّيْخُ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعَ بِالَّذِيَ اتَّعَدْتُمْ لَهُ، فَحَضَرَ مَعَكُمْ لَيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ، وَعَسَى أَنْ لَا يَعْدِمَكُمْ مِنْهُ رَأْي وَنُصْح، قَالُوا: أَجَلْ، فَادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ:

مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ.

وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ.

وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ: النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ.

وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى: أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ.

وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ.

وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: مُنَبِّهٌ وَنُبَيْهٌ ابْنَا الْحَجَّاجُ.

وَمِنْ بَنِي جُمَحَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ.

وَمَنْ لَا يُعَدُّ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نَأْمَنُهُ مِنَ الْوُثُوبِ عَلَيْنَا بِمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا، فَأَجْمِعُوا رَأْيًا، فَتَشَاوَرُوا فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمُ: احْبِسُوهُ بِالْحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ قَبْلَهُ زُهَيْرًا وَالنَّابِغَةِ وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْمَوْتِ حَتَّى يُصِيبَهُ مِنْهُ مَا أَصَابَهُمْ.

فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، وَاللَّهِ لَوْ حَبَسْتُمُوهُ - كَمَا تَقُولُونَ - لَخَرَجَ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الَّذِي أَغْلَقْتُمْ عَلَيْهِ دُونَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ فَيَنتْزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يُكَابِرُونَكُمْ حَتَّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ. مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، فَانْظُرُوا فِي غَيْرِهِ.

ثُمَّ تَشَاوَرُوا فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَنَنْفِيهِ مِنْ بَلَدِنَا، فَإِذَا خَرَجَ عَنَّا فَمَا نُبَالِي أَيْنَ يَذْهَبُ، وَلَا حَيْثُ وَقَعَ غَابَ عَنَّا أَذَاهُ، وَفَرَغْنَا مِنْهُ، وَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا.

قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاللَّهِ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ وَغَلَبَتَهُ عَلَى قُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا أَتَى بِهِ، وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا أَمِنْتُ أَنْ يَحِلَّ عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَيَغْلِبَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِمْ، وَبِحَدِيثِهِ حَتَّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسِيرُ إِلَيْكُمْ حَتَّى يَطَأَكُمْ بِهِ، فَيَأْخُذَ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ ثُمَّ يَفْعَلَ بِكُمْ مَا أَرَادَ، دَبِّرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا.

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ.

قَالُوا: وَمَا هَذَا يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ شَابًّا جَلْدًا خَلِيلًا نَسِيبًا وَسِيطًا ثُمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَعْمِدُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتُلُونَهُ جَمِيعًا وَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ عَلَى الْقَبَائِلِ كُلِّهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا، وَإِنْ رَضُوا بِالْعَقْلِ، عَقَلْنَاهُ لَهُمْ.

قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: الْقَوْلُ مَا قَالَ الرَّجُلُ، هَذَا الرَّأْيُ لَا أَرَى لَكُمْ غَيْرَهُ.

فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: لَا تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِكَ الَّذِي كُنْتَ تَبِيتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ عَتَمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ حَتَّى يَنَامَ، فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَانَهُمْ قَالَ لِعَلِيٍّ: نَمْ عَلَى فِرَاشِي وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْأَخْضَرِ الْحَضْرَمِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُصُ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِك.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: اجْتَمَعُوا لَهُ وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ وهُمْ عَلَى بَابِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا زَعَمَ أَنَّكُمْ إِنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَكُمْ جِنَانُ الْأُرْدُنِّ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَكُمْ مِنْهُ ذَبْحٌ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، فَجُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ، وَأَنْتَ أَحَدُهُمْ، وَأَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ فَلَا يَرَوْنَهُ، فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَاتِ: ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [يس: 1، 2] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 9] حَتَّى فرغ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فَلَمْ يَبْقَ رَجُلٌ إِلَّا وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ، فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فَقَالَ: مَا يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ؟

قَالُوا: مُحَمَّدًا.

قَالَ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ؛ قَدْ - وَاللَّهِ - خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إِلَّا وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ أَفَلَا تَرَوْنَ إِلَى مَا بِكُمْ؟

فَوَضَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَطَلَّعُونَ فَيَرَوْنَ عَلِيًّا عَلَى الْفِرَاشِ مُتَسَجِّيًا بِبُرْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمٌ عَلَيْهِ بُرْدُهُ، فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَقَامَ عَلِيٌّ عَنِ الْفِرَاشِ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَنَا الَّذِي حَدَّثَنَا، فَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمُكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]".


للاستزادة


  1. تفسير ابن كثير (3/ 151).
  2. اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (2/ 28).

اخترنا لكم


دلائل النبوة الحكمة من فرض الصلوات الخمس على النبي ﷺ في السماء
الحكمة من فرض الصلوات الخمس على النبي ﷺ في السماء

فرض الله تعالى الصلواتِ ليلةَ الإسراء والمعراج في السماء خمسين صلاةً في اليوم والليلة، ثم خفَّفها إلى خمس صلوات في (...)

دلائل النبوة إقسام الله تعالى بحياته ﷺ
إقسام الله تعالى بحياته ﷺ

القسَم دائمًا يكون بمعظَّم لدى الْمُقسِم، وإذا أقسم الله تعالى بشيء، فإن هذا القسم يكون تعظيمًا لهذا الشيء وتشريفًا له من قِبَل الله تعالى، وقد أقسم ا (...)

دلائل النبوة معجزة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ
معجزة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ

إن رحلة الإسراء والمعراج من أشهر المعجزات، وأظهر البراهين البيِّنات، وأقوى الحُجَج الْمُحْكَمات، وأصدق الأنباء، وأعظم الآيات، وأتمِّ الدلالات الدالَّة (...)

دلائل النبوة كلام النبي ﷺ مع أبي جهل، وما رآه من العبر والآيات
كلام النبي ﷺ مع أبي جهل، وما رآه من العبر والآيات

لقد أظهر أبو جهل العداوة والبغضاء للنبيِّ ﷺ، رغم شهادته للنبي ﷺ بالصدق والأمانة، وقد قال الله عنه وعن أمثاله من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم ممن كذَّبو (...)