ما دار بينه ﷺ وبين المشركين وصبره على بلوى الدعوة والأذية

لقد كانت حياة النبيِّ ﷺ كلُّها صبرًا لا ينقطع، وجهادًا ومجاهدة، وعملًا دائبًا، منذ أن نزلت عليه أوَّل آية، وحتى آخر لحظة في حياته، وقد أدرك ﷺ طبيعة ما سيُصيبه منذ بَدْء بعثته، حيث ذهبت به خديجة - رضي الله عنها - إلى ورقةَ بنِ نَوْفلٍ، الذي قال له: يا ليتني كنت حيًّا إذ يُخرجك قومك، فقال له ﷺ: (أوَمُخرِجيَّ هم؟)، قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودي. رواه البخاريُّ ومسلم.

الآيات تتنزَّل بالصبر:

لقد كانت الآيات تتنزَّل عليه ﷺ تُخاطبه بالصبر، ويكفي تأمُّل هذه الآيات لنَعلَم مقدار البلاءات التي عاناها خلال دعوته إلى الله تعالى، والصبر عليها؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [يونس: 109]، ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِين}﴾ [هود: 49]، ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين﴾ [هود: 115]، ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ } [النحل: 127]، ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه: 130]، ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60]، ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 17]، ﴿{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَق﴾ [غافر: 55]، ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل﴾ [الأحقاف: 35]، ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48]، ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾ [المعارج: 5 - 7]، ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ [المزمل: 10]، ﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِر﴾ [المدثر: 7]، ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: 24].

صبره ﷺ على إيذاء المشركين ودعوتهم:

لقد أُوذي النبيُّ ﷺ أذًى شديدًا من الكفَّار، فصَبَر، ولم يتعجَّل هلاكهم، ولم يدعُ عليهم بالاستئصال؛ بل إنه سأل الله تعالى أن يُخرِج من أصلابهم من يوحِّد الله تعالى، ولا يُشرك به شيئًا.

وقد تعدَّدت صورُ الإيذاء والمواجهة والحرب التي أعلنها الكفَّار في مكَّةَ على رسول الله ﷺ بين الاستهزاء والسخرية، والاتِّهام بالجنون والسِّحر والشِّعر، والإيذاء البدنيِّ، ومحاولة اغتياله ﷺ وغير ذلك من أساليب الإيذاء التي تحمَّلَها الرسول ﷺ في صبرٍ واحتساب، راجيًا من الله أن يهديَ قومه إلى الحق وعبادة الله وحده لا شريك له، وتَرْكِ ما دون ذلك من الأوثان والأصنام.

"وانْطَلَقُوا يُؤْذُونَهُ ﷺ ويَتَوَعَّدُونَهُ؛ لَعَلَّ التَّرْهِيبَ يَفْعَلُ فِيهِ مَا لَمْ يَفْعَلِ التَّرْغِيبُ... رَمَوْا في طَرِيقِهِ الشَّوْكَ وَهُوَ مَاشٍ، وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ أحْشَاءَ النَّاقَةِ وهُوَ سَاجِدٌ، ورَمَوْهُ في الطَّائِفِ بِالحِجَارَةِ، وأَسَالُوا دَمَهُ، وهَزِئُوا بِهِ، وسَلَّطُوا عَلَيْهِ سُفَهَاءَهُمْ،

فَلَمْ يُثِرْ هَذَا كُلَّهُ غَضَبَهُ ﷺ ولَكِنْ أثَارَ إشْفَاقه، إشْفَاقَ الكَبِيرِ عَلَى الأطَفْالِ المُؤْذِينَ، والعَاقِلِ عَلَى المَجَانِينَ، وكَانَ جَوَابُهُ ﷺ-: (اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)( ).

بعض صور إيذاء المشركين للنبيِّ ﷺ:

لقد صبر ﷺ على ما تعرَّض له من أذًى جسديٍّ من قومه وأهله وعشيرته وهو بمكة يبلِّغ رسالة ربه، وكان في مقدِّمة الكفار وأشدَّهم إيذاءً له ﷺ عمُّه أبو لهب، وامرأته أمُّ جميل أروى بنت حرب، منذ إعلان الدَّعوة؛ حيث أخذ أبو لهب حجَرًا؛ ليضرب به النبيَّ ﷺ وهو يُعلن دعوته على الملأ من قريش عند الصَّفا، وقد أمر أبو لهبٍ ابنَيْه عُتبة وعُتَيبة بتطليق ابنتَيْ رسول الله ﷺ واستجاب الابنانِ لذلك، أما زوجته أمُّ جميل – حمَّالة الحطب - فكانت تحمل الشَّوك، وتضعه في طريق النبيِّ ﷺ وعلى بابه ليلًا، وكانت امرأةً سليطة اللِّسان.

كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله ﷺ وجاره، وكان بيته ملتصقًا ببيته، وكان بعضُ زعماء قريش من جيرانه - كعقبة بن أبي مُعَيط، وعديِّ بنِ حمراءَ الثَّقفيِّ، وابن الأصداء الهذليِّ - كان أحدهم يطرح عليه ﷺ رَحِم الشَّاة وهو يصلِّي في بيته، ويرمون بالأشواك والأحجار في طريقه، فكان ﷺ إذا صرَّحوا عليه ذلك يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول: (يا بني عبدِ مناف، أيُّ جوارٍ هذا؟!)، ثم يُلقيه في الطريق( ).

ورغم كل ما لَقِيه النبيُّ ﷺ من الأذى الشديد من كفَّار قومه، فإنه صبر عليه صبرًا جميلًا، ويتجلَّى ذلك الصبر الجميل من النبيِّ ﷺ في أنه لم يتعجَّل هلاكهم، ولم يدعُ عليهم بالاستئصال رغم تكذيبهم وإيذائهم له؛ بل رجا الله تعالى أن يخرج من أصلابهم من يوحِّد الله ولا يشرك به شيئًا.

عن عائِشةَ - رضِي اللهُ عنها - زوجِ النَّبيِّ ﷺ أنَّها قالت للنَّبيِّ ﷺ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ - قيل: مكان مخصوص في الطائف - إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) رواه البخاريُّ (3231)، ومسلم (1795).

وأخرج البخاريُّ (6943) عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ).

وأخرج البخاريُّ (3856) من حديث عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ: أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ المُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ ﷺ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي فِي حِجْرِ الكَعْبَةِ، إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ، وَدَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] الآيَة.

وكان – ﷺ يصلِّي عند البيت، وأبو جهل وأصحابٌ له جلوس، فقال بعضهم لبعض: أيُّكم يَجيء بسَلَى جَزُور بني فلان، فيَضَعَه على ظهر محمد إذا سجد؟

فبَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ سَاجِدٌ، جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ، فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - فَأَخَذَتْهُ مِنْ ظَهْرِهِ، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (اللهُمَّ عَلَيْكَ المَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ، أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، وقد قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ، غَيْرَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، أَوْ: أُبَيٍّ، تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ، فَلَمْ يُلْقَ فِي البِئْرِ. رواه البخاريُّ (3854) ومسلم (108).

وروى أبو نعيم في دلائل النبوة: عن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَأَبَا الْبَخْتَرِيِّ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، وَزَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُمَيَّةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَالْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ، وَنَبِيهَ وَمُنَبِّهَ ابْنَا الْحَجَّاجِ، اجْتَمَعُوا، وَمَنِ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: "ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذَرُوا فِيهِ"، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ أَنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَيْكَ لِيُكَلِّمُوكَ، قَالَ: فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ – سَرِيعًا، وَظَنَّ أَنْ قَدْ بَدَا لِقَوْمِهِ فِي أَمْرهِ بُدُوٌّ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَرِيصًا يُحِبُّ رُشْدَهُمْ، وَيَعِزُّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ. فَلَمَّا قَامَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَبَى إِلَّا مَا تَرَوْنَ مِنْ عَيْبِ دِينِنَا وشَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَسَبِّ آلِهَتِنَا، وَإِنِّي أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَجْلِسَنَّ غَدًا بِحَجَرٍ مَا أُطِيقُ حَمْلَهُ - أَوْ كَمَا قَال - فَإِذَا سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ، أَرْضَخْتُ رَأْسَهُ، فَأَسْلِمُونِي عِنْدَ ذَلِكَ أَوِ امْنَعُونِي، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَا بَدَا لَهُمْ. قَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُسْلِمُكَ لشَيْءٍ أَبَدًا، فَامْضِ لِمَا تُرِيدُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو جَهْلٍ، أَخَذَ حَجَرًا كَمَا قَالَ، وَجَلَسَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ – يَنْتَظِرُهُ، وَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَمَا يَغْدُو، وَكَانَ إِذَا صَلَّى، صَلَّى بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيِّ وَالْأَسْوَدِ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ قَعَدَتْ قُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهِمْ يَنْتَظِرُونَ مَا أَبُو جَهْلٍ فَاعِلٌ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ احْتَمَلَ أَبُو جَهْلٍ الْحَجَرَ ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُ، رَجَعَ مُنْهَزِمًا مُنْتَقِعًا لَوْنُهُ مَرْعُوبًا، قَدْ يَبِسَتْ يَدَاهُ عَلَى الْحَجَرِ، فَقَذَفَ الْحَجَرَ عَنْ يَدِهِ، وَقَامَ إِلَيْهِ رِجَالُ قُرَيْشٍ وَقَالُوا لَهُ: مَا لَكَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: قُمْتُ إِلَيْهِ لِأَفْعَلَ بِهِ مَا قُلْتُ لَكُمُ الْبَارِحَةَ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ، عَرَضَ دُونَهُ فَحْلٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتِهِ وَلَا قَصَرَتِهِ وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، فَهَمَّ أَنْ يَأْكُلَنِي، فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (ذَلِكَ جِبْرَئِيلُ، لَوْ دَنَا مِنْهُ لَأَخْذَهُ)، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ، قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ وَاللَّهِ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ مَا ابْتُلِيتُمْ بِمِثْلِهِ قَطُّ ( ).

وآذاه عُتبةُ بن أبي لهب، فشقَّ قميصه، وتفل في وجهه إلا أنَّ البزاق لَم يقع عليه، وحينئذٍ دعا عليه النبيُّ ﷺ وقال: (اللهم سلِّط عليه كلبًا من كلابك)، واستُجيب دعاؤه، فذبحه السَّبُع وهو بالزرقاء بالشام( ).

ومن أشدِّ ما لَقِيه النبيُّ – ﷺ – حينما ذهب لأهل الطائف لدعوتهم، فوجدهم أشدَّ وأقسى من كفَّار قريش، وأقام رسول الله ﷺ بين أهل الطائف عشَرةَ أيام، لا يَدَع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلَّمه، فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغرَوْا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج، تبعه سفهاؤهم وعبيدهم، يسبُّونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له صفَّين، وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء... وأتى رسول الله ﷺ إلى حبلة من عنب، فجلس تحت ظلِّها إلى جدار، فلما جلس إليه واطمأنَّ، دعا بالدعاء المشهور الذي يدلُّ على امتلاء قلبه كآبة وحُزنًا مما لَقِيَ من الشدَّة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، قال: (اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟! أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟! إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي؛ وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وصَلَحَ عَلَيْهِ أمْرُ الدُّنْيَا والَآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)( ).

للاستزادة


  1. الرحيق المختوم للمباركفوري (ص: 74).
  2. اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (1/228).

اخترنا لكم


دلائل النبوة كلام النبي ﷺ مع أبي جهل، وما رآه من العبر والآيات
كلام النبي ﷺ مع أبي جهل، وما رآه من العبر والآيات

لقد أظهر أبو جهل العداوة والبغضاء للنبيِّ ﷺ، رغم شهادته للنبي ﷺ بالصدق والأمانة، وقد قال الله عنه وعن أمثاله من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم ممن كذَّبو (...)

دلائل النبوة ذِكره ﷺ في الكتب المتقدمة
ذِكره ﷺ في الكتب المتقدمة

لقد ورد ذكر النبيِّ ﷺ في الكتب السابقة، وهذا ثابت في القرآن الكريم أن النبيَّ ﷺ مذكور في التوراة والإنجيل، ورغم تحريف التوراة والإنجيل والتغيير فيهما، (...)

دلائل النبوة بدء الوحي للنبي ﷺ
بدء الوحي للنبي ﷺ

عندما اقترب نزول الوحي على النبيِّ ﷺ، بدأت تَلُوحُ آثارُ النُّبُوَّةِ عليه ﷺ، وتهيئته لاستقبال الوحي، وكان أول ما بُدئ به الرؤيا الصادقة أو الصالحة، ف (...)

دلائل النبوة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ
الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ

قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِ (...)