التقاء النبي ﷺ بالأنبياء بأرواحهم أم مع أجسادهم؟

لقد التقى النبيُّ ﷺ بالأنبياء في رحلة الإسراء والمعراج، حيث أمَّهم في الصلاة بالمسجد الأقصى، ثم التقى أثناء عروجه إلى السموات العلى، فلَقِيَ في كل سماء نبيًّا من الأنبياء، ما عدا السماءَ الثانية، حيث لَقِيَ عيسى ويحيى - عليهما السلام - فهل لَقِي النبيُّ ﷺ أرواح الأنبياء فقط، أو أنه لقي أرواحهم وأجسادهم؟

الحياة البرزخية:

بعد الموت، في الحياة البرزخية، هناك بعض الأصناف من المؤمنين يَحْيَون حياة كاملة؛ مثل الشهداء هم أحياء عند ربهم حياة كاملة؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169-171]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154].

وإذا كانت حياة الشهداء البرزخية عند ربهم كاملة، فإن حياة الأنبياء أكمل، ويجب على المسلم الإيمان بهذه الحياة دون التعرُّض لكيفيتها وحقيقتها إلا بنصوص من القرآن والسُّنَّة المطهَّرة، وقد وردت بعض الأحاديث في هذا السياق، منها:

عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ؛ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ))، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ عَلَيْكَ صَلاَتُنَا وَقَدْ أَرِمْتَ؟ يَعْنِي: وَقَدْ بَلِيتَ، قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ)) رواه أحمد (16262) وابن ماجه (1085) والنسائيُّ (1374) وأبو داود (1074) وصححه الألبانيُّ.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ)) رواه أبو يعلى في "مسنده" (3425)، وصحَّحه الألبانيُّ في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (621).

وروى مسلم (2375) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ)).

قال الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 1017): "«فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ»: لَكِنْ حَصَلَ لَهُمُ الِاشْتِبَاهُ أَنَّ الْعَرْضَ هَلْ هُوَ عَلَى الرُّوحِ الْمُجَرَّدِ أَوْ عَلَى الْمُتَّصِلِ بِالْجَسَدِ؟ وَحَسِبُوا أَنَّ جَسَدَ النَّبِيِّ كَجَسَدِ كُلِّ أَحَدٍ، فَكَفَى فِي الْجَوَابِ مَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ، وَأَمَّا عَلَى مَا قَدَّمَهُ الطِّيبِيُّ فَإِنَّمَا يُفِيدُ حَصْرَ الْعَرْضِ، وَالسَّمَاعِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ سَائِرَ الْأَمْوَاتِ أَيْضًا يَسْمَعُونَ السَّلَامَ وَالْكَلَامَ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُ أَقَارِبِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، نَعَمْ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَكُونُ حَيَاتُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَيَحْصُلُ لِبَعْضِ وُرَّاثِهِمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الْحَظُّ الْأَوْفَى بِحِفْظِ أَبْدَانِهِمُ الظَّاهِرَةِ؛ بَلْ بِالتَّلَذُّذِ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهِمَا فِي قُبُورِهِمُ الطَّاهِرَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ الْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ كُلُّهَا ذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِ شَرْحِ الصُّدُورِ فِي أَحْوَالِ الْقُبُورِ، بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآثَارِ الصَّرِيحَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا أَفَادَهُ مِنْ ثُبُوتِ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ حَيَاةً بِهَا يَتَعَبَّدُونَ، وَيُصَلُّونَ فِي قُبُورِهِمْ، مَعَ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَالْمَلَائِكَةِ أَمْرٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَقَدْ صَنَّفَ الْبَيْهَقِيُّ جُزْءًا فِي ذَلِكَ".

وقال العظيم أبادي في عون المعبود شرح سنن أبي داود (3/ 372): "وَوَرَدَ النَّصُّ فِي كِتَاب اللَّه فِي حَقّ الشُّهَدَاء أَنَّهُمْ أَحْيَاء يُرْزَقُونَ، وَأَنَّ الْحَيَاة فِيهِمْ مُتَعَلِّقَة بِالْجَسَدِ؛ فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؟!".

قال الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 190): "ثم اعلم أن الحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إنما هي حياة برزخية، ليست من حياة الدنيا في شيء؛ ولذلك وجب الإيمان بها دون ضرب الأمثال لها، ومحاولة تكييفها وتشبيهها بما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا. هذا هو الموقف الذي يجب أن يتَّخِذه المؤمن في هذا الصدد: الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيسة والآراء كما يفعل أهل البِدع الذين وصل الأمر ببعضهم إلى ادِّعاء أن حياته ﷺ في قبره حياة حقيقية. قال : يأكل و يشرب ويجامع نساءه! وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى".

كيف كان التقاء النبي ﷺ بالأنبياء؟

هل كان التقاء النبي ﷺ بإخوانه الأنبياء بأجسادهم مع أرواحهم؟ أم بأرواحهم دون أجسادهم؟

هناك قولان لأهل العلم.

قال ابن حجر في فتح الباري (7/ 210): "وَقَدِ اسْتُشْكِلَ رُؤْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ مَعَ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ مُسْتَقِرَّةٌ فِي قُبُورِهِمْ بِالْأَرْضِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَشَكَّلَتْ بِصُوَرِ أَجْسَادِهِمْ، أَوْ أُحْضِرَتْ أَجْسَادُهُمْ لِمُلَاقَاةِ النَّبِيِّ ﷺ تلك الليلةَ تشريفًا له وتكريمًا".

والراجح: أنه التقى أرواحهم متشكِّلةً بصور أجسادهم، باستثناء عيسى - عليه السلام - حيث رُفع بروحه وبدنه، وهناك خلاف في إدريس - عليه السلام - والراجح أنه ملتحق بباقي إخوانه الأنبياء لا بعيسى - عليه السلام - فالأنبياء - عليهم السلام - أبدانهم في قبورهم، وأرواحهم في السماء، فما قدَّره الله تعالى لهم من اللقاء بالنبي ﷺ إنما هو بأرواحهم المتشكِّلة بصورة أجسادهم الحقيقية، وهو ما رجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن رجب وآخرون .

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/ 328): "وأما رؤيته – أي: رؤية موسى عليه السلام - ورؤية غيره من الأنبياء ليلة المعراج في السماء ، لَمَّا رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، أو بالعكس، فهذا رأى أرواحَهم مصوَّرة في صور أبدانهم. وقد قال بعض الناس: لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور؛ وهذا ليس بشيء".

وقال ابن رجب الحنبلي في فتح الباري (2/ 317): "والذي رآه في السماء من الأنبياء - عليهم السلام - إنما هو أرواحهم، إلا عيسى، فإنه رُفع بجسده إلى السماء".

وقال ابن حجر في فتح الباري (7/ 212): "اخْتُلِفَ فِي حَالِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ لَقْيِ النَّبِيِّ ﷺ إِيَّاهُمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ: هَلْ أُسْرِيَ بِأَجْسَادِهِمْ لِمُلَاقَاةِ النَّبِيِّ ﷺ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، أَوْ أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي لَقِيَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ وَأَرْوَاحُهُمْ مُشَكَّلَةٌ بِشَكْلِ أَجْسَادِهِمْ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ؟ وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ بَعْضُ شُيُوخِنَا، وَاحْتَجَّ بِمَا ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((رَأَيْتُ مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ))، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ لَمَّا مَرَّ بِهِ. قُلْتُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِرُوحِهِ اتِّصَالٌ بِجَسَدِهِ فِي الْأَرْضِ؛ فَلِذَلِكَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الصَّلَاةِ وَرُوحُهُ مُسْتَقِرَّةٌ فِي السَّمَاء".

وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ليس باستطاعة البدن عامة – للأنبياء وغيرهم - الانتقال من مكان لآخَرَ؛ بل هذه حال الروح، لذا؛ عندما رأى النبي ﷺ موسى - عليه السلام - يصلِّي في قبره، ثم رآه في بيت المقدس، ثم في السماء السادسة، فهذا الانتقال لروحه - عليه السلام - دون بدنه.

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/ 526، 527): "وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبْدَانَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُبُورِ إلَّا عِيسَى وَإِدْرِيسَ، وَإِذَا كَانَ مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ ثُمَّ رَآهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ مَعَ قُرْبِ الزَّمَانِ، فَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحْصُلُ لِلْجَسَدِ".

قال الشيخ صالح آل الشيخ: "والأظهر من القولين عندي: أنَّ ذلك كان بالأرواح دون الأجساد، خلا عيسى - عليه السلام - وذلك أنَّ النبي ﷺ حين التقى بالأنبياء وصلَّوا معه ﷺ إما أن يُقال: صَلَّوا معه بأجسادهم، وقد جُمِعَت أجسادهم له من القبور، ثم رَجعت إلى القبور وبقيت أرواحُهم في السماء، وإما أن يُقال: هي بالأرواح فقط؛ لأنَّهُ لَقِيهم في السماء. ومعلوم أنَّ الرّفع إنما خُصَّ به عيسى - عليه السلام - إلى السماء رَفْعًا حيًّا، وكونهم يُرْفَعُون بأجسادهم وأرواحهم إلى السماء دائمًا ولا وجود لهم في القبور هذا لا دليل عليه؛ بل يخالف أدلة كثيرة: أنَّ الأنبياء في قبورهم إلى قيام الساعة، فمعنى كونهم ماتوا ودُفنوا: أنَّ أجسادهم في الأرض، وهذا هو الأصل، ومن قال بخلافه قال: هذا خاصٌّ بالنبي ﷺ أنه بُعِثَتْ له الأنبياء، فَصَلَّى بهم ولَقِيهم في السماء، وهذه الخصوصية لابدَّ لها من دليل واضح، وكما ذكرتُ فالدليل التأمُّلي يعارضه، وعلى كلٍّ: هما قولان لأهل العلم من المتقدِّمين والمتأخِّرين"[1] .


[1] انظر: شرح العقيدة الطحاوية (شريط رقم 14).

للاستزادة


  1. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 1017).
  2. فتح الباري لابن حجر (7/ 212).

اخترنا لكم


دلائل النبوة دعاء النبي ﷺ على مَشْيخة قريش
دعاء النبي ﷺ على مَشْيخة قريش

كان النبيُّ يصفح عن إيذاء كفار قريش ويتجاوز عنهم في بداية الدعوة؛ عملًا بأمر الله تعالى له: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر: 85]، وقوله: ﴿و (...)

دلائل النبوة أحداث رحلة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ
أحداث رحلة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ

لقد تعدَّدت روايات رحلة الإسراء والمعراج في السيرة والأحاديث النبوية الصحيحة، وليس هناك حديث واحد يجمع ما ورد من أحداث خلال هذه الرحلة المباركة؛ وإنما (...)

دلائل النبوة وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ

من فضائل النبيِّ ﷺ أنَّ الله تعالى فضَّله على سائر الأنبياء والمرسلين: فقد أجمعت الأمة بأنَّ نبيَّنا محمدًا ﷺ هو أفضل الأنبياء في الدنيا والآخرة، قال (...)

دلائل النبوة تقديم نبوته ﷺ قبل خلق آدم
تقديم نبوته ﷺ قبل خلق آدم

كانت نبوَّة النبي ﷺ مذكورةً معروفة من قبل أن يَخلُقه الله تعالى ويُخرجه إلى دار الدنيا حيًّا، وكان ذلك مكتوبًا في أمِّ الكتاب من قبل نفخ الروح في آدم (...)