لقد أرسل الله تعالى رسوله ﷺ رحمة للعالمين، من آمَن به أو لم يؤمن به على السواء؛ رحمةً للبشرية جمعاءَ؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
الرحمة المهداة للناس جميعًا:
عن أبي صالح رضي الله عنه قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يناديهم: "يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة"؛ رواه الحاكم وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي.
ولم تكن رحمته ﷺ مخصوصةً بالمؤمنين فقط؛ وإنما كانت للبرِّ والفاجر، والمؤمن والمنافق، والصديق والعدوِّ، فقد بُعِث ﷺ أمانًا للناس أجمعين؛ فوجوده بينهم كان حفظًا لهم من الهلاك؛ يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33].
فأما رحمته بالمؤمنين، فهي ظاهرة، وتتجلَّى في قوله ﷺ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ، أُعَلِّمُكُمْ» رواه أبو داود.
وقد شَمِلت رحمته ﷺ أعداءه من المشركين، فوسط ما كان يلاقيه منهم ﷺ هو وأصحابه، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا؛ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» رواه مسلم.
ويوم فتح مكة، لما قال سعدُ بنُ عبادةَ، وهو يرفع راية الجيش: اليوم يوم الملحمة، فأخذ النبيُّ ﷺ منه الراية، وأعطاها لولده قيس، وقال: «بل اليوم يوم المرحمة»، وأمر الجيش ألا يقاتل إلا من قاتله، فلما أظهره الله عليهم، تجلَّت رحمته في العفو عمن آذَوه ولم يكونوا يرقبون فيه ولا في المؤمنين إلًّا ولا ذِمَّة؛ فقال لهم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].
قال القرطبيُّ - رحمه الله - "تفسير القرطبيِّ" (11/ 350): "قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان محمدٌ ﷺ رحمةً لجميع الناس، فمن آمن به وصدَّق به، سَعِد، ومن لم يؤمن به، سَلِم مما لحق الأمم من الخسف والغرق".
وقال الشنقيطيُّ - رحمه الله – "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (4/ 250، 251): "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾: ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - إِلَى الْخَلَائِقِ إِلَّا رَحْمَةً لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ جَاءَهُمْ بِمَا يُسْعِدُهُمْ وَيَنَالُونَ بِهِ كُلَّ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنِ اتَّبَعُوهُ، وَمَنْ خَالَفَ وَلَمْ يَتَّبِعْ فَهُوَ الَّذِي ضَيَّعَ عَلَى نَفْسِهِ نَصِيبَهُ مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ الْعُظْمَى. وَضَرَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِهَذَا مَثَلًا، قَالَ: لَوْ فَجَّرَ اللَّهُ عَيْنًا لِلْخَلْقِ غَزِيرَةَ الْمَاءِ، سَهْلَةَ التَّنَاوُلِ، فَسَقَى النَّاسُ زُرُوعَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ بِمَائِهَا، فَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ بِذَلِكَ، وَبَقِيَ أُنَاسٌ مُفَرِّطُونَ كُسَالَى عَنِ الْعَمَلِ، فَضَيَّعُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ، فَالْعَيْنُ الْمُفَجَّرَةُ فِي نَفْسِهَا رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَنِعْمَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ؛ وَلَكِنَّ الْكَسْلَانَ مِحْنَةٌ عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ حَرَمَهَا مَا يَنْفَعُهَا، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾ [إبراهيم: 28]".
رحمة النبيِّ ﷺ مطبوعة فيه:
إن رحمة النبيِّ ﷺ لم تكن من مكتسَبات النبوَّة؛ وإنما كانت مطبوعةً فيه؛ فهذه أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - تصفه قائلة: «كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيك الله أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» رواه البخاريُّ ومسلم.
فهذا هو رسول الله ﷺ قبل الرسالة؛ فكيف به يكون بعد الرسالة؟!
لقد امتنَّ الله تعالى على عباده بإرساله ﷺ رحمةً لهم؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
رحمته ﷺ بالحيوان والجماد:
لقد شَمِلت رحمته ﷺ الحيوان والجماد:
فمن رحمته بالحيوان ما رواه عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ، فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: «مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟» قُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ» رواه أبو داود وصحَّحه الألبانيُّ.
ومن رحمته بالجماد:
حنين جذع النخلة وشوقه إلى النبيِّ ﷺ لَمَّا تركه وصَعِد المنبر؛ فعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ، قَالَ: فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَهَا غُلاَمٌ نَجَّارٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي غُلاَمًا نَجَّارًا، أَفَلا آمُرُهُ أَنْ يَتَّخِذَ لَكَ مِنْبَرًا تَخْطُبُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَاتَّخَذَ لَهُ مِنْبَرًا، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: فَأَنَّ الْجِذْعُ الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَيْهِ كَمَا يَئِنُّ الصَّبِيُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ هَذَا بَكَى لِمَا فَقَدَ مِنَ الذِّكْرِ» رواه أحمد.
وصية النبيِّ ﷺ بالرحمة:
وكان ﷺ يوصي بالرحمة للناس جميعًا؛ فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ» رواه البخاريُّ ومسلم.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ» رواه أبو داود والترمذيُّ بزيادة وقال: حديث حسن صحيح.