لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ

قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].

إن الدعوة إلى الله هي مَهمَّة الرسل، وعليها مَدار رسالاتهم؛ فإنما بُعثوا دعاة إلى الخير، وهُداة للبشر، مبشِّرين ومنذرين، يبشِّرون من آمن بنَيل رضوان الله، وجنات عرضها السموات والأرض، ومنذرين من كفر بسخط الله والعذاب الأليم؛ قال تعالى: ﴿ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].

وقد كان النبيُّ ﷺ في القمة من ذلك؛ فهو خاتم المرسَلين، وحبيب رب العالمين، وهو سيد ولد آدم، فقام بأداء الرسالة حقَّ القيام، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده.

حرص النبيِّ ﷺ على هداية الخلق:

لقد كان النبيُّ ﷺ حريصًا أشدَّ الحرص على هداية الناس، وتبليغ رسالة ربه تعالى، وقد كان ذلك الحرص الذي ملأ قلبه ﷺ لأنه كان أعرفَ الخلق بالله تعالى، وأعلمهم بوعد الله ووعيده، لذا؛ كان يحرص على الناس، ويرجو لهم الخير ورحمة الله تعالى، ويخشى عليهم عذابه وتحقق وعيده.

ولحرصه على هداية الخلق؛ كان حريصًا على بذل الخير للناس، وأوقف حياته للدعوة، وجعل همَّه هداية الناس، وتبليغ رسالة ربِّه، ونشر الإسلام، ورفع راية التوحيد؛ فصدق فيه قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].

امتنان الله على عباده بعثة النبيِّ ﷺ:

لقد امتنَّ الله تعالى على عباده بأن بعث فيهم هذا النبيَّ ﷺ من أنفسهم؛ يقول الله - عز وجل-: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].

لم يقل: جاءكم رسول منكم؛ ولكن قال: (من أنفسكم)، وهي أشدُّ حساسيةً، وأعمقُ صلةً، وأدلُّ على نوع الوشيجة التي تربطهم به؛ فهو بضعة من أنفسهم، تتَّصل بهم صلة النفس بالنفس، وهي أعمق وأشد حساسيةً، وهو (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ)، يَعِزُّ ويشقُّ عليه عَنَتكم ومشقَّتُكم.

 حريص عليكم، غاية الحرص، وغاية الشفقة، يحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشرَّ، ويسعى جهده في تنفيركم عنه، ولا يلقي بكم في المهالك، ولا يدفع بكم إلى المهاوي، فإذا كلَّفكم بما تظنونه يشقُّ عليكم وتكرهونه، أو بركوب الصعاب، فما ذلك من هوان بكم عليه، ولا بقسوة في قلبه وغلظة؛ إنما هي الرحمة في صورة من صورها. الرحمة بكم من الذل والهوان، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة، وحظ رضوان الله، والجنة التي وعد المتقون.

قال الطاهر بن عاشور – رحمه الله - في "التحرير والتنوير" (10/ 337): "فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنَّة ببعثة محمد ﷺ والتنويه بصفاته الجامعة للكمال، ومن أخصِّها حرصُه على هداهم، ورغبته في إيمانهم ودخولهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفًا رحيمًا بهم؛ ليعلموا أن ما لَقِيه الْمُعرِضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل، ما هو إلا استصلاح لحالهم. وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله تعالى مقارِنةً لبعثة رسوله ﷺ بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، بحيث جاء في هاتين الآيتين بما من شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدَّة، وعوملوا بالغلظة؛ تعقيبًا للشدَّة بالرفق، وللغلظة بالرحمة، وكذلك عادة القرآن، فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة؛ ليدخلها من وفَّقه الله إليها".

كل ذلك الحرص، وهذه المنَّة من الله تعالى على عباده، كيف يقابلها الناس؟

يُكمل الله تبارك وتعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129].

أبعد كل هذا الحرص على هدايتهم يتولَّون؟! بعد أن رأوا النبيَّ ﷺ ولمسوا منه إرادة الخير لهم، ورغبته رغبةً ملحَّة في إيصاله للناس، تدفعه رحمته ويحدوه الأمل في إيصال الهداية والخير للخلق بحياتهم حياة طيبة في الدنيا، ودخولهم الجنة ونجاتهم من العذاب في الآخرة، أبعد كل هذا يتولَّون؟!

نعم، إن من عجيب أمر الخلق، أن يحرص النبيُّ ﷺ على هدايتهم، وهم يُعرضون عنه، لذا؛ قال الله - عز وجل- لرسوله ﷺ: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف:103].

وقال: ﴿ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [النحل:37].

يقول الشنقيطي - رحمه الله – في "أضواء البيان" (2 /375): "ذكر - جلَّ وعلا - في هذه الآية أن حرص النبيِّ ﷺ على إسلام قومه لا يهدي من سبق في علم الله أنه شقيٌّ، وأوضح هذا المعنى في مواضعَ أُخَرَ؛ كقوله: ﴿  إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]، وقوله: ﴿ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 41]".

ويواسي الله تعالى نبيَّه مما يلقى من قومه؛ يقول الله سبحانه: ﴿ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل:127].

قال الشنقيطيُّ - رحمه الله - في "أضواء البيان" (2 /316): "الصحيح في معنى هذه الآية الكريمة أن الله نهى نبيَّه ﷺ عن الحُزن على الكفَّار إذا امتنعوا من قَبول الإسلام، ويدلُّ لذلك كثرة ورود هذا المعنى في القرآن العظيم؛ كقوله: ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل: 127]، وقوله: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [فاطر: 8]، وقوله: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3]، وقوله: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6]، وقوله: ﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 68]، إلى غير ذلك من الآيات، والمعنى قد بلَّغتَ، ولستَ مسؤولاً عن شقاوتهم إذا امتنعوا من الإيمان، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، فلا تحزن عليهم إذا كانوا أشقياءَ".


للاستزادة


  1. التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (22/ 434).
  2. فتح الباري لابن حجر (8/ 344).

اخترنا لكم


دلائل النبوة عصمة النبي ﷺ من كيد الكائدين
عصمة النبي ﷺ من كيد الكائدين

لقد تكفَّل الله تعالى بعصمة نبيِّه ﷺ؛ قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]، وهذا عهد من الله تعالى لنبيِّه ﷺ بحمايته وعصمته (...)

دلائل النبوة ما رآه النبي ﷺ في الجنة
ما رآه النبي ﷺ في الجنة

لقد شاهد النبيُّ ﷺ في رحلة الإسراء والمعراج المباركة من آيات الله الكبرى، ومن ذلك أنه ﷺ أُدخِل الجنَّة، وسنذكر (...)

دلائل النبوة معجزة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ
معجزة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ

إن رحلة الإسراء والمعراج من أشهر المعجزات، وأظهر البراهين البيِّنات، وأقوى الحُجَج الْمُحْكَمات، وأصدق الأنباء، وأعظم الآيات، وأتمِّ الدلالات الدالَّة (...)

دلائل النبوة ما دار بينه ﷺ وبين المشركين وصبره على بلوى الدعوة والأذية
ما دار بينه ﷺ وبين المشركين وصبره على بلوى الدعوة والأذية

لقد كانت حياة النبيِّ ﷺ كلُّها صبرًا لا ينقطع، وجهادًا ومجاهدة، وعملًا دائبًا، منذ أن نزلت عليه أوَّل آية، وحتى آخر لحظة في حياته، وقد أدرك ﷺ طبيعة ما (...)