سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا

كانت رحلةُ الإسراء والمعراج مواساةً للنبىِّ ﷺ وتَسْريَةً لنفسه، وإذهابًا للوحشة التى نالت قلب الرسول ﷺ بفَقْد حبيبينِ: زوجِه خديجةَ – رضي الله عنها – وعمِّه أبي طالب؛ فتجلَّى في هذه الرحلة العظيمة أن الله تعالى هو وحدَه الحبيبُ والحامي الأعظم.

لقد علمتَ آنفًا ما أصاب النبيَّ ﷺ من أذى ثَقيف حين ذهب إليهم داعيًا إلى الله تعالى، وكيف كانت عَودته من الطائف حاملًا جبالًا من الهموم؛ لفُجورهم في الصدِّ عن الدعوة، وقد كان يؤمِّل خيرًا وصلاحًا لانتشار دعوة التوحيد، وأن يجد لديهم المؤازرة والنُّصرة؛ إلا أنهم كانوا أشدَّ على الدعوة من أهل مكَّةَ، وأَسْوأَ وأجهل.

وفي خِضمِّ هذه المآسي والشدائد والأحزان المتتابعة، يُدرك الله تعالى برحمته ولُطفه نبيَّه المصطفى ﷺ فيُواسِيه ويُسَرِّي عن نفسه المهمومة، وفؤاده الجريح، برحلة عظيمة يرى فيها آياتِ الله الكبرى؛ حُبًّا وكرامة للنبيِّ ﷺ، هي رحلة الإسراء والمعراج.

مقام العبودية:

قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1].

هذا مَقام الكرامة والرِّفعة والعِزَّة والتعظيم من الله تعالى لنبيِّه ﷺ، يَصِف الله تعالى حبيبَه المصطفى فيه بالعبودية: {أسرى بعبده}، وهذا دَيْدَنُ القرآن في هذا الْمَقام مع النبيِّ ﷺ ليبدوَ جَليًّا، ويستقرَّ في نفوس المؤمنين أن مقام تعظيم النبيِّ ﷺ وكرامته هو مقام عُبوديته لله تعالى، فتصفو عقيدتهم من أيِّ دَخَن يمكِن أن يُصيب عقيدتهم كما أصاب مَن قبلَهم بتعظيم أنبيائهم وصالحيهم، ورفعِهم إلى مقام الألوهية، وما يؤدِّي إليه من الشرك بالله.

فانظر إلى آيات القرآن وتعظيمها للنبيِّ ﷺ في مقام الوحي والتَّلقِّي، أو مقام الدعوة، أو مقام النُّصرة، أو مقام الدُّعاء والمناجاة، وهَلُمَّ جرًّا، كان الوصف الجَليُّ هو العبوديةَ لله؛ قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف: 1]، وقال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1]، وقال: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه﴾ [الزمر: 36]، وقال: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: 10]، وقال: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: 9]، وقال: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوه﴾ [الجن: 19].

إن الوصف بالعبودية في هذه المواضع الكريمة لَيَدُلُّ على عَظَمة ورِفعة ذلك المقام؛ بل يدلُّ على أنه أسمى ما يصل إليه الإنسان؛ فإن أقصى ما يَبلُغه المؤمن أن يصل إلى مقام العبودية لله تعالى.

ويظلُّ مقام الألوهية لله وحده، فلا يلتبس مقام الألوهية بمقام العبودية، ولا يَزِلُّ المؤمنون بتَأْلِيه بشر، مهما أعطاه الله تعالى من الآيات والكرامات والمعجِزات، كما فعل أتباع الرسل من قبلُ فضلُّوا.

العبودية لله وصف تكريم وثناء:

قال ابن تيمية في "العبودية" (ص: 75): "كمال الْمَخْلُوق فِي تَحْقِيق عبوديته لله، وكلَّما ازداد العبد تَحْقِيقًا للعبودية، ازْدَادَ كَمَاله، وعلت دَرَجَته، ومَنْ تَوَهَّم أنَّ المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه، أو أنَّ الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق؛ بل من أضلِّهم؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 26، 27]"؛ أي: بل الملائكة عبادٌ مُكْرَمون، أكرمهم الله برضاه عنهم، وجعلهم من عباده المقرَّبين، وفضَّلهم على كثير من خلقه الصالحين؛ فالملائكة - عليهم السلام - بسبب اصطفاء الله لهم، وإكرامه إياهم بالعبودية، لهم منازل عالية، ومقامات سامية، وهم في غاية الطاعة لله تعالى قولاً وفعلاً؛ فالعبوديةُ وصْفُ تكريمٍ ومدحٍ وثناء، لذا؛ وصَفَ الله تعالى جميع أنبيائه المصطفين بالرسالة بالعبودية في كتابه الكريم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}﴾ [النساء: 172]، وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ﴾ [ص: 45-47].


للاستزادة


  1. العبودية لابن تيمية (ص: 75).
  2. تفسير السعدي، (ص 46).

اخترنا لكم


دلائل النبوة عصمة النبي ﷺ من التديُّن بدين الجاهلية
عصمة النبي ﷺ من التديُّن بدين الجاهلية

لقد عصم الله تعالى نبيَّه ﷺ قبل بعثته، وكان ﷺ مَصُونًا عَمَّا يُسْتَقْبَحُ، فلم يشرب خمرًا قطُّ، ولا اقترب من فاحشة، ولا انغمس فِيمَا كَانَ يَنْغَمِسُ (...)

دلائل النبوة عصمة النبي ﷺ من كيد الكائدين
عصمة النبي ﷺ من كيد الكائدين

لقد تكفَّل الله تعالى بعصمة نبيِّه ﷺ؛ قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]، وهذا عهد من الله تعالى لنبيِّه ﷺ بحمايته وعصمته (...)

دلائل النبوة وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ

من فضائل النبيِّ ﷺ أنَّ الله تعالى فضَّله على سائر الأنبياء والمرسلين: فقد أجمعت الأمة بأنَّ نبيَّنا محمدًا ﷺ هو أفضل الأنبياء في الدنيا والآخرة، قال (...)

دلائل النبوة نشأة النبي ﷺ وتصرُّف الأحوال به حتى جاءه الوحي
نشأة النبي ﷺ وتصرُّف الأحوال به حتى جاءه الوحي

نشأ النبيُّ ﷺ مجبولًا على الأخلاق الحميدة في أصل خِلْقَتِه، وَأَوَّلِ فِطْرَتِهِ، بِجُودٍ إلَهِيٍّ، وخُصُوصِيَّهٍ رَبَّانِيَّةٍ، فقد حبا الله تعالى نب (...)