رحمته ﷺ بالجماد

إن الرسول ﷺ كان له الخُلق السامي في التعامل بالرحمة مع جميع البشر والحيوانات؛ بل والجمادات، وللنبي ﷺ مواقفُ عظيمةٌ مع الجمادات، هي معجزات وأدلَّة واضحة على صِدق نبوَّته، حيث تدلُّ هذه المواقف على عظيم مكانة النبيِّ ﷺ عند ربِّه، وأن الله تعالى قد سخَّر له الجماداتِ كما سخَّر له سائر المخلوقات، وتعلِّمنا هذه المواقف أهمية الرحمة بجميع المخلوقات، حتى الجمادات، وأن الإسلام دين الرحمة والسلام.

إن رحمة النبيِّ ﷺ بالجمادات هي نموذج لنا في كيفية التعامل مع المخلوقات برفق ولين، وأن نحترم كل شيء في هذا الكون، وأن نؤمن بأن كل شيء يسبِّح بحمد الله، وأن الله هو خالق كلِّ شيء ومالكه.

حنين الجذع له ﷺ:

لقد شَمِلت رحمته ﷺ الجماد، ومن ذلك: حنين جذع النخلة وشوقه إلى النبيِّ ﷺ لَمَّا تركه وصَعِد المنبر؛ روى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قال: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ المِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ فَحَنَّ الجِذْعُ، فَأَتَاهُ فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ". وروى الإمام أحمد في مسنده تفصيل هذا الموقف؛ فعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ، قَالَ: فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَهَا غُلاَمٌ نَجَّارٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي غُلاَمًا نَجَّارًا، أَفَلا آمُرُهُ أَنْ يَتَّخِذَ لَكَ مِنْبَرًا تَخْطُبُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَاتَّخَذَ لَهُ مِنْبَرًا، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: فَأَنَّ الْجِذْعُ الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَيْهِ كَمَا يَئِنُّ الصَّبِيُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ هَذَا بَكَى لِمَا فَقَدَ مِنَ الذِّكْرِ» رواه أحمد.

قال السنديُّ في حاشيته على سنن ابن ماجه (1/ 433): "قَوْلُهُ: (فَحَنَّ الْجِذْعُ) مِنَ الْحَنِينِ، وَهُوَ صَوْتٌ كَالْأَنِينِ يَكُونُ عِنْدَ الشَّوْقِ لِمَنْ يَهْوَاهُ إِذَا فَارَقَهُ".

وقال القسطلاني في إرشاد الساري (6/ 45): "(فحنّ الجذع) لمفارقته حنين المتألِّم المشتاق عند الفراق، وإنما يشتاق إلى بركة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ويتأسَّف على مفارقته أعقل العقلاء، والعقل والحنين بهذا الاعتبار يستدعي الحياة، وهذا يدلُّ على أن الله تعالى خلق فيه الحياة والعقل والشوق؛ ولهذا حنّ (فأتاه) عليه الصلاة والسلام (فمسح يده عليه) فسكن".

قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (10/ 71): "وَالْجِذْعُ سَاقُ النَّخْلَةِ، (فَحَنَّ الْجِذْعُ حَنِينَ النَّاقَةِ)؛ أَيْ: صَاتَ كَصَوْتِ النَّاقَةِ، وَأَصْلُ الْحَنِينِ تَرْجِيعُ النَّاقَةِ صَوْتَهَا إِثْرَ وَلَدِهَا، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: (فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ فضمَّها إليه تئنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يَسْكُنُ)، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: (فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ، فَمَسَّهُ فَسَكَتَ)، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: (فَضَمَّهَا إِلَيْهِ)، وفي حديث ابن عُمَرَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِي بَابِ الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ (فَالْتَزَمَهُ فَسَكَنَ).

الشجرة تسلم عليه ﷺ:

عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيُّ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَنَامَ النبيُّ ﷺ فَجَاءَتْ شَجَرَةٌ تَشُقُّ الْأَرْضَ حَتَّى غَشِيَتْهُ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ، ذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: ((هِيَ شَجَرَةٌ اسْتَأْذَنَتْ رَبَّهَا - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَنْ تُسَلِّمَ عَلَيَّ، فَأَذِنَ لَهَا" رواه أحمد وأبو نُعيم في دلائل النبوة. (تَشُقُّ الْأَرْضَ)؛ أَيْ: تَقْطَعُهَا، (حَتَّى غَشِيَتْهُ)؛ أَيْ: أَتَتْهُ وَأَظَلَّتْه.

الحجر يُسلِّم عليه ﷺ:

روى مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ».

قال النووي في شرح مسلم (15/ 36، 37): "فِيهِ مُعْجِزَةٌ لَهُ ﷺ، وَفِي هَذَا إِثْبَاتُ التَّمْيِيزِ فِي بَعْضِ الْجَمَادَاتِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحِجَارَةِ: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، وَقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يسبِّح حَقِيقَةً، وَيَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ تَمْيِيزًا بِحَسْبِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهُ الْحَجَرُ الَّذِي فَرَّ بِثَوْبِ مُوسَى ﷺ، وَكَلَامُ الذِّرَاعِ الْمَسْمُومَةِ، وَمَشْيُ إِحْدَى الشَّجَرَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى حِينَ دَعَاهُمَا النَّبِيُّ ﷺ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ".

جبل أُحد يحب النبيَّ ﷺ:

روى البخاري ومسلم عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ، رَاجِعًا وَبَدَا لَهُ أُحُدٌ، قَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ».

قال النووي في شرح مسلم (9/ 139، 140): "قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا بدا له أُحُدٌ قَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»)، الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ أُحُدًا يُحِبُّنَا حَقِيقَةً، جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ تَمْيِيزًا يُحِبُّ بِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ من خشية الله}، وَكَمَا حَنَّ الْجِذْعُ الْيَابِسُ، وَكَمَا سَبَّحَ الْحَصَى، وَكَمَا فَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِ مُوسَى ﷺ وَكَمَا قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ»، وَكَمَا دَعَا الشَّجَرَتَيْنِ الْمُفْتَرِقَتَيْنِ فَاجْتَمَعَتا، وَكَمَا رَجَفَ حِرَاءٌ فَقَالَ: «اسْكُنْ حِرَاءُ فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ» الْحَدِيثَ، وَكَمَا كَلَّمَهُ ذِرَاعُ الشَّاةِ، وَكَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تفقهون تسبيحهم}، وَالصَّحِيحُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ حَقِيقَةً بِحَسَبِ حَالِهِ؛ وَلَكِنْ لَا نَفْقَهُهُ، وَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ شَوَاهِدُ لِمَا اخْتَرْنَاهُ وَاخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَأَنَّ أُحُدًا يُحِبُّنَا حَقِيقَةً، وَقِيلَ: الْمُرَادُ يُحِبُّنَا أَهْلُهُ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

للاستزادة


  1. شرح النووي على مسلم (9/ 139).
  2. دلائل النبوة للبيهقي (6/ 23).

اخترنا لكم


الرحمة رحمته ﷺ
رحمته ﷺ

لقد أرسل الله تعالى رسوله ﷺ رحمة للعالمين، من آمَن به أو لم يؤمن به على السواء؛ رحمةً للبشرية جمعاءَ؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً (...)

الرحمة رحمته ﷺ بالكافرين
رحمته ﷺ بالكافرين

لقد أرسل الله تعالى رسوله ﷺ رحمة للعالمين، من آمَن به أو لم يؤمن به على السواء؛ رحمةً للبشرية جمعاءَ؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً (...)

الرحمة رحمته ﷺ بالأطفال
رحمته ﷺ بالأطفال

لقد كان النبيُّ ﷺ الرحمةَ الْمُهداة للعالمين، وكانت تتجلَّى رحمته ﷺ في تعامله مع الأطفال، فكان النبي ﷺ يحبُّ الأطفال، يُلاطفهم ويلاعبهم، وكان رحيمًا ب (...)

الرحمة صور من رحمته ﷺ
صور من رحمته ﷺ

لقد أرسل الله تعالى رسوله ﷺ رحمة للعالمين، من آمَن به أو لم يؤمن به على السواء؛ رحمةً للبشرية جمعاءَ؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً (...)