لقد أمر النبي ﷺ بالصِّدق، وحثَّ عليه في جميع المعاملات التي يقوم بها المسلم، وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين؛ قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين﴾ [التوبة: 119]، وعن أبي سفيان في حديثه الطويل في قصة هِرَقْلَ عظيمِ الروم: قال هرقلُ: فماذا يأمركم؟ - يعني النبيَّ ﷺ - قال أبو سفيانَ: قلتُ: "يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والصدقة، والعفاف، والصلة" رواه البخاريُّ (7)، ومسلم (1773).
منزلة الصدق:
إن منزلة الصدق هي المنزلة العظمى في الدين؛ قال ابن القيم في مدارج السالكين (2/ 257): "ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصدق، وهي منزلة القوم الأعظمِ، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأَقْوَم الذي من لم يَسِرْ عليه فهو من المنقطِعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكَّان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه، الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجَه باطلًا إلا أَرْداه وصَرَعه، مَن صال به لم تُردَّ صَوْلته، ومن نَطَق به، عَلَت على الخصوم كلمته، فهو رُوح الأعمال، ومَحَكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوَّة، التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنَّات، تُجرى العيون والأنهار إلى مساكن الصدِّيقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متَّصِل ومَعِين، وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخصَّ الْمُنعَمَ عليهم بالنبيِّين والصِّديقين والشهداء والصالحين؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]".
النبي ﷺ يعلِّمنا صدق الحديث:
• روى البخاريُّ (6094)، ومسلم (2607) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا». قال النوويُّ في شرح مسلم (16/ 160): "قال العلماء: معناه: أنّ الصِّدق يهدي إلى العمل الصّالح الخالص من كلِّ مذموم، والبرَّ اسم جامع للخير كلِّه، وقيل: البرُّ الجنَّة، ويجوز أن يتناول العمل الصّالح والجنّة، وأمّا الكذب فيُوصِل إلى الفجور، وهو الميل عن الاستقامة، وقيل: الانبعاث في المعاصي. قوله ﷺ: «وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكتب عند اللّه صدِّيقًا، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند اللّه كذَّابًا»، وفي رواية: «ليتحرَّى الصّدق، وليتحرَّى الكذب»، وفي رواية: «عليكم بالصّدق؛ فإنّ الصّدق يهدي إلى البرِّ، وإيّاكم والكذبَ»، قال العلماء: هذا فيه حثٌّ على تحرِّي الصِّدق، وهو قصدُه، والاعتناء به، وعلى التّحذير من الكذب والتّساهل فيه؛ فإنّه إذا تساهَل فيه كَثُر منه، فعُرِف به، وكتبه اللّه لمبالغته صدِّيقًا إن اعتاده، أو كذَّابًا إن اعتاده، ومعنى (يُكتَب) هنا: يُحكَم له بذلك، ويستحقُّ الوصف بمنزلة الصِّدِّيقين وثوابهم، أو صفة الكذَّابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إمَّا بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظِّه من الصّفتين في الملأ الأعلى، وإمّا بأن يُلقيَ ذلك في قلوب النّاس وألسنتهم، كما يوضَع له القبول والبغضاء، وإلّا فقَدَرُ اللّه تعالى وكتابه السابق قد سبق بكلِّ ذلك، واللّه أعلم".
• وعن الحسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالب - رضي الله عنهما - قال: حفظتُ من رسول الله ﷺ: «دعْ ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبكَ؛ فإن الصدقَ طمأنينةٌ، وإن الكذبَ ريبةٌ» رواه الترمذيُّ (2518)، والنسائيُّ (5711)، وقال الترمذيُّ: حديث صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 637). أي: اترك ما تشكُّ في كونه حسنًا أو قبيحًا، أو حلالًا أو حرامًا، واعْدِل عنه إلى ما لا شكَّ فيه، مما تيقَّنْتَ حُسْنَه وحِلَّه؛ فإنَّ الصدق محلُّ الطمأنينة أو سبب الطمأنينة، يطمئنُّ إليه القلب ويَسكُن، وإنَّ الكذب ريبة وقلق للقلب، فإذا وجدتَ نفسك ترتاب في الشيء فاتركه؛ فإنَّ المؤمنَ - ذا النفس الشريفة المطهَّرة عن دَنَس الذنوب، ووَسَخ العيوب – تطمئنُّ نفسه إلى الصدق وترتاب من الكذب، فارتيابك من الشيء مُنبئ عن كونه مَظِنَّة للباطل، فاحذره، وطمأنينتك للشيء إشعار بحقيقته، فتمسَّك به.
• وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ»، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ» رواه ابن ماجه (4216)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (3291).
• وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله ﷺ قال: «أربع إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك في الدنيا: حِفْظُ أمانة، وصدق حديث، وحُسن خليقة، وعفَّة في طُعمة» رواه أحمد (6652)، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان" (6/449)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1718).
• وقال رسول الله ﷺ: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع» رواه مسلم (4). قال ابن الجوزيِّ في كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/340) "قوله ﷺ: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع» فيه تأويلان؛ أحدُهما: أن يَرويَ ما يَعلَمه كذبًا، ولا يبيِّنه؛ فهو أحدُ الكاذبين، والثاني: أن يكون المعنى: بحسب المرء أن يكذَّب؛ لأنَّه ليس كلُّ مسموع يصدَّق به، فينبغي تحديث الناس بما تحتمله عقولهم".
• وقال النبيُّ ﷺ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» رواه البخاريُّ (34)، ومسلم (58).
• وقال ﷺ: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ» رواه البخاريُّ (33)، ومسلم (59).