مراتب الوحي للنبيِّ ﷺ

كان يُوحى للنبيِّ ﷺ بطرق عديدة، تختلف في هيئتها، وتختلف في شدَّتها على النبيِّ ﷺ، فكانت مراتب الوحيِ بعضها أشدُّ من بعض، وهي كالتالي:

1) الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ:

كَانَتْ مَبْدَأَ وَحْيِهِ ﷺ، وَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا. أخرج البخاريُّ (3) ومسلم (160) عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: "أَوَّلُ مَاُ بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ".

2) إلقاء الوحي في رُوع النبيِّ ﷺ:

فكَانَ الْمَلَكُ يُلقي الوحيَ في رُوعِهِ ﷺ وقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ. عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ" رواه الحاكم في المستدرك (2181)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1702).

3) الملك يتمثَّل رجلًا:

كَانَ الْمَلَك يَتَمَثَّلُ لَلنبيِّ ﷺ رَجُلًا، فيُخَاطِبُهُ حتَّى يَعِيَ عَنْهُ ما يَقُولُ لهُ، وفِي هذه المَرْتَبَةِ كَانَ يَرَاهُ الصَّحَابَةُ أحْيَانًا. أخرج مسلم (8) عن عمر -رضي اللَّه عنه – قال: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: «مَا الْمَسْؤولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ».

4) مثل صلصلة الجَرَس:

حيث كَانَ الوحيُ يَأْتِيهِ ﷺ في مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وكَانَ أشَدُّهُ عَلَيْهِ، فيَتَلَبَّسُ بِهِ المَلَكُ، حتَّى إِنَّ جَبِينَهُ يسيل منه العرَق في اليَوْمِ الشَّدِيدِ البَرْدِ، وحتَّى إِنَّ نَاقَتَهُ لَتَبْرُكُ بِهِ إِلَى الأَرْضِ إِذَا كَانَ رَاكِبَهَا.

أخرج البخاريُّ (2) ومسلم (2333) عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ الحَارِثَ بنَ هِشَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَألَ رسُولَ اللَّهِ ﷺ فقَالَ: يا رسُولَ اللَّهِ، كيفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟ فقَالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ»، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: "وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ فِي اليَوْمِ الشَّدِيدِ البَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا".

5) النبيُّ ﷺ يرى الملك في صورته:

فيَرَى ﷺ الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ التِي خُلِقَ عَلَيْهَا، فَيُوحِي إِلَيْهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَهُ، وهَذَا وَقَعَ لَهُ ﷺ مَرَّتَيْنِ. روى الترمذيُّ (3562) عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: " لم يَرَ محمّد ﷺ جبريل - عليهِ السَّلامُ - في صُورتِهِ إلا مرَّتين: مرَّة عند سِدْرَة المُنْتَهَى، ومرَّة في جِيَادٍ لهُ سِتُّمِائة جَنَاحٍ قد سَدَّ الأُفُق". وأخرج مسلم (177) عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبيَّ ﷺ قال: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ».

6) الوحيُّ وَهُوَ ﷺ فَوْقَ السَّمَوَاتِ لَيْلَةَ المِعْرَاجِ:

مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى نبيِّه ﷺ وَهُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ لَيْلَةَ المِعْرَاجِ منْ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَغَيْرِهَا، وقد أخرج البخاريُّ (3887) ومسلم (162) حديث الإسراء والمعراج وفرض الصلوات في السماء، وهو حديث طويل سيأتي الحديث عنه بالتفصيل في الحديث عن معجزة الإسراء والمعراج.

7) كلام الله تعالى للنبيِّ ﷺ بلا واسطة:

فكلَّم الله تعالى نبيَّه ﷺ بِلَا وَاسِطَة، كَمَا كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ - عليهِ السَّلامُ - وهذا ثابت للنبيِّ ﷺ في حديث المعراج، وثَابِت لِمُوسَى - عليهِ السَّلامُ - بِنَصِّ القُرْآنِ الكريم.

8) تكليم الله لنبيِّه ﷺ مواجهة من غير حجاب:

وهي مسألة وقع فيها الخلاف بين العلماء، فيُثبت ذلك من يَقُولُ: إنَّهُ ﷺ رَأَى ربَّهُ تَعَالَى وكلَّمه كِفَاحًا أو مواجهة مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ، ولا يُثبتها من يقول: إنه ﷺ لم ير ربَّه في الدنيا.


للاستزادة


  1. شرح السنة (13/ 324).
  2. اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (1/ 190).

اخترنا لكم


الدعوة السرية ابتداء فرض الصلاة على النبيِّ ﷺ
ابتداء فرض الصلاة على النبيِّ ﷺ

من المعلوم أن الصلاة فُرضت ليلةَ الإسراء والمعراج في السماء خمسَ صلوات في اليوم والليلة؛ إلَّا أن النبيَّ ﷺ والمسلمين كانوا يصلُّون قبل ذلك، لذا؛ لَمّ (...)

الدعوة السرية تسامع الناس بدعوة النبي ﷺ
تسامع الناس بدعوة النبي ﷺ

أخذ الناس يتسامعون بالدين الجديد، الذي يدعو إلى عبادة الله وحده، ويأمر الخير والمعروف، وينهى عن الفواحش والمنكَر، وأخذ المؤمنون يزدادون، وسَارَعَ الفُ (...)

الدعوة السرية إسلام صديقه ﷺ أبي بكر الصديق
إسلام صديقه ﷺ أبي بكر الصديق

أبو بكر الصديق اسمه عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ القُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ، كان لَقَبُ (...)

الدعوة السرية إسلام حِبه ﷺ زيد بن حارثة
إسلام حِبه ﷺ زيد بن حارثة

هو زَيْدُ بن حَارِثَةَ بن شُرَحْبِيلَ، أبو أسامةَ، حِبُّ رسولِ اللَّهِ ﷺ، ومَوْلاه - والمَوْلَى: هو المَمْلُوكُ الذي أُعْتِقَ - كان لخديجةَ أوَّلًا، ف (...)