خُروج النبيِّ ﷺ بتجارة خديجةَ

كانَتْ خَدِيجَةُ بنتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ، تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ في مَالِهَا، وتُضَارِبُهُمْ إيَّاهُ بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمْ، والمُضَاربَةُ: هيَ إعطاء المَال للغَيْرِ يتاجر فيه على نسبة معيَّنة من الرِّبْحِ.

عرض خديجةَ على النبيِّ ﷺ الخروج بتجارتها:

بلغ النبيُّ ﷺ الخَامِسَةَ والعِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ المُبَارَكِ، وانتشر الحديث عن كرم أخلاقه، وصِدْقِ حَدِيثِهِ، وعِظَمِ أمَانَتِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ خديجةَ بنتَ خُوَيْلدٍ ذلك عن النبيِّ ﷺ بَعَثَتْ إِلَيْهِ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالِهَا إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا، وتُعْطِيَهُ أَفْضَلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنَ التُّجَّارِ، فَقَبِلَ النبيُّ ﷺ عَرْضَها.

وفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أنَا رَجُلٌ لَا مَالَ لِي، وقَدِ اشْتَدَّ الزَّمَانُ عَلَيْنَا، وهَذِهِ عِيرُ قَوْمِكَ، وقَدْ حَضَرَ خُرُوجُهَا إِلَي الشَّامِ، وخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ تَبْعَثُ رِجَالًا مِنْ قَوْمِكَ فِي تجارتها، فَلَوْ جِئتهَا فَعَرَضْتَ نَفْسَكَ عَلَيْهَا لَأَسْرَعَتْ إِلَيْكَ؛ لِمَا يَبْلُغُهَا عَنْكَ مِنْ طَهَارَتِكَ، وفَضْلِكَ عَلَى غَيْرِكَ، فَبَلَغَ خَدِيجَةَ الخَبَرُ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وقَالَتْ لَهُ: أنَا أُعْطِيكَ ضِعْفَ مَا أُعْطِي رَجُلًا مِنْ قَوْمِكَ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: هَذَا رِزْقٌ قَدْ سَاقه اللهُ إِلَيْكَ.

خُروج النبيِّ ﷺ بتجارة خديجة:

خَرَجَ النبيُّ ﷺ فِي مَال خديجة، وخَرَجَ مَعَهُ غُلَامُهَا "مَيْسَرَةُ"، وأوصى أعمامُه أَهْلَ العِيرِ به، حتَّى قَدِمَا "بُصْرَى" مِنَ الشَّامِ، فنَزَلَا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ مِنَ الرُّهْبَانِ يُقَالُ لَهُ: "نَسْطُورٌ"، فَاطَّلَعَ الرَّاهِبُ إِلَى مَيْسَرَةَ فَقَالَ لَهُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الذِي نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟

فَقَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ: هذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الحَرَمِ.

فقَالَ الرَّاهِبُ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ قَطُّ إِلَّا نَبِيٌّ. ثُمَّ قَالَ لِمَيْسَرَةَ: أَفِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ؟

قَالَ: نَعَمْ، لَا تُفَارِقُهُ.

فقَالَ: هُوَ نَبِيٌّ، وَهُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاء.

ثُمَّ بَاعَ النَّبِيُّ ﷺ سِلْعَتَهُ التِي خَرَجَ بِهَا، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مُلَاحَاةٌ – أي: مُلَاومَةُ ومُبَاغَضَهُ - فقَالَ لَهُ: احْلِفْ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ النبيُّ ﷺ: "مَا حَلَفْتُ بِهِمَا قَطُّ، وإِنِّي لَأَمُرُّ فَأُعْرِضُ عَنْهُمَا"، فَقَالَ الرَّجُلُ: القَوْلُ قَوْلُكَ، ثُمَّ اشْترَى النبيُّ ﷺ مَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ، ثم رجع إِلَى مَكَّةَ وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ.

وكَانَ اللهُ قَدْ أَلْقَى عَلَيْهِ ﷺ المَحَبَّةَ مِنْ مَيْسَرَةَ، فكَانَ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ، فَلَمَّا كَانُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، قَالَ مَيْسَرَةُ: يَا مُحَمَّدُ، انْطَلِقْ إِلَى خَدِيجَةَ فَأَخْبِرْهَا بِمَا صَنَعَ اللهُ لَهَا عَلَى وَجْهِكَ، فَإِنَّهَا تَعْرِفُ ذَلِكَ لَكَ، فَتَقَدَّمَ رسُولُ اللهِ ﷺ حتَّى دَخَلَ مَكَّةَ فِي سَاعَةِ الظَّهِيرَةِ، وخَدِيجَةُ فِي عِلِّيَّةٍ – وهي الغُرْفَةُ في الطابق الثاني من الدَّارِ – لَهَا، فَرَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، ومَلَكَانِ يُظِلَّانِهِ، فَأَرَتْهُ نِسَاءَهَا، فَعَجِبْنَ لِذَلِكَ، ودَخَلَ عَلَيْهَا رسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَخَبَّرَهَا بِمَا رَبِحُوا فِي وَجْهِهِمْ، فَسُرَّتْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ مَيْسَرَةُ عَلَيْهَا، أخْبَرَتْهُ بِمَا رَأَتْ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ هَذَا مُنْذُ خَرَجْنَا مِنَ الشَّامِ، وأخْبَرَهَا بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ "نَسْطُورٌ"، ثُمَّ بَاعَتْ خَدِيجَةُ مَا جَاءَ بِهِ ﷺ مِنْ تِجَارَةٍ، فَرَبِحَتْ ضِعْفَ مَا كَانَتْ تَرْبَحُ، وأَضْعَفَتْ لَهُ ضعْف مَا كَانَتْ تُعْطِي رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ.

للاستزادة


  1. ابن سعد في طبقاته (1/ 61 - 62).
  2. السيرة النبوية للذهبيِّ (1/ 62).

اخترنا لكم


قبل الرسالة والنبوة شُهود النبيِّ ﷺ حربَ الفِجَار
شُهود النبيِّ ﷺ حربَ الفِجَار

حَرْبُ الفِجَار هي حرب شهيرة وقعت بين قُريش ومن معها من كِنانةَ من جهة، وقَيْسِ عَيْلانَ وأحلافِها من جهة، وسببُ تسميته بـ(يوم الفِجَار) ما حدَث فيه م (...)

قبل الرسالة والنبوة ولاية العباس عمِّ النبيِّ ﷺ على السقاية
ولاية العباس عمِّ النبيِّ ﷺ على السقاية

لَمَّا هَلَك عبدُ مَنَافٍ وكان له من المناصب دار النَّدوة، والحجابة، واللواء، والسقاية، ورفادة الحاجِّ – والرفادة طعام كان يُصنَع للحاجِّ على طريقة ال (...)

قبل الرسالة والنبوة شَقُّ صدر النبيِّ ﷺ
شَقُّ صدر النبيِّ ﷺ

حَادِثَةُ شَقِّ صدره الشَّرِيفِ ﷺ:عَنْ عُتْبَةَ بنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رسُولَ الله ﷺ، فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ أوَّلُ شَأْنِكَ يا (...)

قبل الرسالة والنبوة وفاة عبد المطلب جَدِّ النبيِّ ﷺ
وفاة عبد المطلب جَدِّ النبيِّ ﷺ

كَانَ النبيُّ ﷺ في كَفَالَةِ جَدِّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فلَمَّا بَلَغَ ثَمَانِية أعوام، تُوُفِّيَ جَدُّهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ.دُفِن عبد المطلب جد ال (...)