لقد صنع الله تعالى رسوله ﷺ على عَينه، فظَلَّتْ حياته ﷺ قبل البعثة حياةً فاضلة شريفة، لم تُعرَف له فيها هفوةٌ ولا زَلَّة، وشبَّ رسول الله ﷺ يَحُوطه الله تعالى بعنايته، ويحفظه من أقذار الجاهلية؛ لِما يُريده له من كرامته ورسالته، حتى صار أفضلَ قومِه مروءةً، وأحسنَهم خُلقًا، وأكرمَهم حَسَبًا، وأحسنَهم جِوارًا، وأعظمَهم حِلْمًا، وأصدقَهم حديثًا، وأعظمَهم أمانةً، وأبعدَهم من الفُحش والأخلاق التي تدنِّس الرجال، حتى صار معروفًا بـ(الأمين).
نِعَم الله تعالى على رسوله ﷺ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يُعَدِّدُ نِعَمَهُ عَلَى عَبْدِهِ ورَسُولهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وسَلَامُهُ عَلَيْهِ: ﴿{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}﴾ [الضحى: 6]، وذَلِكَ أَنَّ أبَاهُ تُوُفِّيَ، وهُوَ حَمْلٌ في بَطْنِ أُمِّهِ ﷺ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ، وله مِنْ العُمُرِ سِتُّ سِنِينَ، ثُمَّ كَانَ في كَفَالَةِ جَدِّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، إلى أَنْ تُوُفِّيَ، وله مِنَ العُمُرِ ثَمَانِي سِنِينَ، فكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، ثمَّ لَمْ يَزَلْ يَحُوطُهُ ويَنْصُرُهُ ويَرْفَعُ مِنْ قَدْره ويُوَقِّرُهُ، ويَكُفُّ عَنْهُ أَذَى قَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ، هذَا وأبُو طَالِبٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، إلى أَنْ تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِقَلِيلٍ، فأقْدَمَ عَلَيْهِ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ وَجُهَّالُهُمْ، فاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَه الهِجْرَةَ مِنْ بَيْنِ أظْهُرِهِمْ إِلَى بَلَدِ الأَنْصَارِ مِنَ الأَوْسِ والخَزْرَجِ، كَمَا أجْرَى اللَّهُ تَعَالَى سُنَّتَهَ عَلَى الوَجْهِ الأَتَمِّ والأَكْمَلِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ آوَوْهُ، وَنَصَرُوهُ، وحَاطُوهُ، وقَاتَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ، وكُلُّ هَذَا مِنْ حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى لَه وَكَلَاءَتِهِ وعِنَايَتِهِ بِهِ ﷺ .
بُغْضُ النبيِّ ﷺ للأصنام:
بُغِّضَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ الأصْنَامُ، ونَشَأَ ﷺ سَلِيمَ العَقِيدَةِ، صَادِقَ الإيمَانِ، عَمِيقَ التَّفَكُّرِ، لم يخضع لضلالات الجَاهِلِيَّةِ، فَمَا عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ سَجَدَ لِصَنَمٍ قَطُّ، أَوْ تَمَسَّحَ بِهِ، أَوْ ذَهَبَ إلى عَرَّافٍ أَوْ كَاهِنٍ؛ بَلْ بُغِّضَ إِلَيْهِ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ، والتَّمَسُّحُ بِهَا.
أخرج الإمام أحمد في مسنده (17947) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنِي جَارٌ لِخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ سَمعَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ لِخَدِيجَةَ: "أَيْ خَدِيجَةُ، وَاللَّهِ لَا أَعْبُدُ اللَّاتَ، وَاللَّهِ لَا أَعْبُدُ العُزَّى أَبَدًا". قَالَ: فتَقُولُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: خَلِّ اللَّاتَ، خَلِّ العُزَّى".
ولَمَّا لَقِيَ بَحِيرَا الرَّاهِبَ، قَالَ لَهُ بَحِيرَا: أسْأَلُكَ بِاللَّاتِ والعُزَّى إِلَّا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أسْأَلُكَ عَنْهُ، وكَانَ بَحِيرَا سَمعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ بِهِمَا، فقَالَ لهُ النَّبِيُّ ﷺ: "لَا تَسْأَلْنِي بِحَقِّ اللَّاتِ والعُزَّى شَيْئًا، فَوَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطُّ بُغْضِي لَهُمَا" .
أخرج النَّسَائِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى (8132) بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: "كَانَ صَنَمَانِ مِنَ نُحَاسٍ يُقَالُ لَهُمَا: إسَافٌ وَنَائِلَةُ، يَتَمَسَّحُ بهِمَا المُشْرِكُونَ إِذَا طَافُوا، فَطَافَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ، وطُفْتُ مَعَهُ، فلَمَّا مَرَرْتُ، مَسَحْتُ بِهِ، فقَالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا تَمَسَّهُ"، قَالَ زَيْدٌ: فَطُفْنَا، فَقُلْتُ في نَفْسِي: لَأَمَسَّنَّهُ حتَّى أَنْظُرَ ما يَكُونُ، فَمَسَحْتُهُ، فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا تَمَسَّهُ، أَلمْ تُنْهَ؟!"، قَالَ زَيْدٌ: فَوَالَّذِي أكْرَمَهُ، وأنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، ما اسْتَلَمَ صَنَمًا قَطُّ حتَّى أكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بالذِي أَكْرَمَهُ، وأنْزَلَ عَلَيْهِ.