نزول سورة الضحى على النبيِّ ﷺ

نزلت سورة الضحى خالصة للنبي ﷺ؛ تسليةً له، وترويحًا لنفسه، وطمأنةً لقلبه، وهدهدة لرُوحه، وجبرًا لخاطره، وذلك أن نزول الوحي على النبيِّ ﷺ قد تأخَّر، فحَزِن ﷺ لذلك، وتحدَّث الكفَّار والمشركون قالوا: ما نرى ربك إلَّا قد قلاك – أي: أبغضك – فنزلت سورة الضحى فيها الردُّ على ادِّعاءات المشركين، وتعضيد النبيِّ ﷺ.

سبب نزول سورة الضحى:

وردت أحاديثُ مختلفةٌ في سبب نزول سورة الضحى، منها ما أخرجه البخاريُّ (4950) ومسلم (1797) عن جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: "اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ - أَوْ ثَلاَثًا - فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ، لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ - أَوْ ثَلاَثَةٍ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: 1-3]".

﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ : أي: مَا تَرَكَكَ وَمَا أَبْغَضَكَ.

وتلك المرأة هي حمَّالةُ الحَطَب، أُمُّ جميلٍ العَوْرَاءُ بنتُ حَرْبٍ، وهي أُختُ أبي سُفيانَ بنِ حَربٍ، وامرأةُ أبي لَهَبٍ، وكانتْ هذهِ المرأةُ تَمْشِي بالنَّمِيمَةِ بينَ الناسِ، وكانت تُعَيِّرُ رسول اللَّه ﷺ بالفَقْرِ، ثم كانت معَ كثْرَةِ مالِهَا تَحْمِلُ الحَطَبَ على ظَهْرِهَا؛ لشِدَّةِ بُخْلِهَا، وكانت تَطْرَحُ الشَّوْكَ بالليلِ على طريق النبيِّ ﷺ، وقد بشَّرَها اللَّه تَعَالَى بالنارِ فقال: ﴿ {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}﴾ [المسد: 5]؛ أي: في عُنُقِهَا حبلٌ منْ نَارٍ.

وأخرج الطبرانيُّ (636) عن خَوْلةَ خادمِ رسول الله ﷺ أَنَّ جِرْوًا دَخَلَ الْبَيْتَ، وَدَخَلَ تَحْتَ السَّرِيرِ وَمَاتَ، فَمَكَثَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ أَيَّامًا لَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَقَالَ: "يَا خَوْلَةُ، مَا حَدَثَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ؟ جِبْرِيلُ لَا يَأْتِينِي، فَهَلْ حَدَثَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ حَدَثٌ؟" فَقُلْتُ: وَاللهِ مَا أَتَى عَلَيْنَا يَوْمٌ خَيْرٌ مِنْ يَوْمِنَا، فَأَخَذَ بُرْدَهُ فَلَبِسَهُ وَخَرَجَ، فَقُلْتُ: لَوْ هَيَّأْتُ الْبَيْتَ، وكَنَسْتُهُ، فَأَهْوَيْتُ بِالْمِكْنَسَةِ تَحْتَ السَّرِيرِ، فَإِذَا شَيْءٌ ثَقِيلٌ، فَلَمْ أَزَلْ حَتَّى أَخْرَجْتُهُ، فَإِذَا بِجِرْوٍ مَيِّتٍ، فَأَخَذْتُهُ بِيَدِي فَأَلْقَيْتُهُ خَلْفَ الدَّارِ، فَجَاءَ نَبِيُّ اللهِ تَرْعَدُ لَحْيَيْهِ، وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الْوَحْيُ أَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ فَقَالَ: "يَا خَوْلَةُ، دَثِّريني"، فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ، وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: 1-3].

قال ابن حجر في فتح الباري (8/ 710): "وَوَجَدْتُ فِي الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا وُجُودُ جِرْوِ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ ﷺ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ فَأَبْطَأَ عَنْهُ جِبْرِيلُ لِذَلِكَ، وَقِصَّةُ إِبْطَاءِ جِبْرِيلَ بِسَبَبِ كَوْنِ الْكَلْبِ تَحْتَ سَرِيرِهِ مَشْهُورَةٌ؛ لَكِنْ كَوْنُهَا سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ غَرِيبٌ؛ بَلْ شَاذٌّ مَرْدُودٌ بِمَا فِي الصَّحِيحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَوَرَدَ لِذَلِكَ سَبَبٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْقُرْآنُ، أَبْطَأَ عَنْهُ جِبْرِيلُ أَيَّامًا فَتَغَيَّرَ بِذَلِكَ، فَقَالُوا: وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى﴾ ، وَمِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ قَالَ: فَتَرَ الْوَحْيُ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَحْزَنَهُ فَقَالَ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبِي قَلَانِي، فَجَاءَ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ ﴿وَالضُّحَى﴾ ، وَذَكَرَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فِي السِّيرَةِ الَّتِي جَمَعَهَا وَرَوَاهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَقَالُوا: لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَتَتَابَعَ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَلَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَالضُّحَى﴾ و ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ بِكَمَالِهِمَا، وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَا تَثْبُتُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَتْرَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ ﴿وَالضُّحَى﴾ غَيْرُ الْفَتْرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ، فَإِنَّ تِلْكَ دَامَتْ أَيَّامًا، وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَاخْتَلَطَتَا عَلَى بَعْضِ الرُّوَاة".

وحديث الجرو أخرجه مسلم (2104) دون ذكر أنه سبب نزول سورة ﴿ والضحى﴾ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: وَاعَدَ رَسُولَ اللهِ ﷺ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سَاعَةٍ يَأْتِيهِ فِيهَا، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ وَلَمْ يَأْتِهِ، وَفِي يَدِهِ عَصًا، فَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: «مَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَا رُسُلُهُ»، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِذَا جِرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، مَتَى دَخَلَ هَذَا الْكَلْبُ هَاهُنَا؟» فَقَالَتْ: وَاللهِ، مَا دَرَيْتُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَاعَدْتَنِي فَجَلَسْتُ لَكَ فَلَمْ تَأْتِ»، فَقَالَ: «مَنَعَنِي الْكَلْبُ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِكَ، إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ».

سورة الضحى بعد فترة الوحي:

نزلت سُورَةُ الضُّحَىُ فِي فَتْرَة الوحي؛ ولكنها ليست فترة الوحي التي كانت بعد ابتداء الوحي؛ بل هي فترة أخْرَى؛ حيث إن فترة الوحي في ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ دَامَتْ أَيَّامًا، أما هذه الفترة فلَمْ تَكُنْ إِلَّا لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَاخْتَلَطَتَا عَلَى بَعْضِ الرُّوَاة.


للاستزادة


  1. فتح الباري لابن حجر (8/ 710).
  2. سيرة ابن هشام (1/ 278).

اخترنا لكم


الدعوة السرية إسلام حِبه ﷺ زيد بن حارثة
إسلام حِبه ﷺ زيد بن حارثة

هو زَيْدُ بن حَارِثَةَ بن شُرَحْبِيلَ، أبو أسامةَ، حِبُّ رسولِ اللَّهِ ﷺ، ومَوْلاه - والمَوْلَى: هو المَمْلُوكُ الذي أُعْتِقَ - كان لخديجةَ أوَّلًا، ف (...)

الدعوة السرية فُتور الوحي عن النبيِّ ﷺ
فُتور الوحي عن النبيِّ ﷺ

فتورُ الوحي عِبارةٌ عَنْ تأخُّرِهِ مُدَّةً منَ الزَّمانِ، فبعد أن نزل جبريلُ – عليه السلام – أوَّلَ مرَّةٍ على النبيِّ ﷺ في غار حِراءٍ، فَتَر الوحيُّ (...)

الدعوة السرية ذَهاب النبيِّ ﷺ والسيدة خديجة إلى ورقة
ذَهاب النبيِّ ﷺ والسيدة خديجة إلى ورقة

كان من كمال عقل السيدة خديجة – رضي الله عنها – أنها ذهبت إلى ورقةَ بنِ نَوْفلٍ دون غيره، فلم (...)

الدعوة السرية ذكر بعض من آمنوا بالنبي ﷺ على يد أبي بكر
ذكر بعض من آمنوا بالنبي ﷺ على يد أبي بكر

بمجرَّد أن أسلم أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – حمل همَّ الدعوة، وقام يبلِّغ دعوة الإسلام إلى أصحابه ومعارفه، الذين يألفونه، ويعرفون قَدْره، وحُسن خُل (...)