زواج النبيِّ ﷺ من السيدة خديجةَ

السيدة خديجةُ بنتُ خُويلدِ بنِ أَسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ قُصَيٍّ، سيِّدةُ نِسَاءِ العالمين في زَمَانها، وهي ممن كَمُل من النِّساء، وقد تزَّوجها النبيُّ ﷺ قبلَ البَعْثَةِ بخمسَ عشْرَةَ سَنَةً.

فضل السيدة خديجة رضي الله عنها:

كانت السيدة خديجة – رضي الله عنها - أوَّلَ من آمنَ بالله ورسوله ﷺ، وصَدَّق بما جاء به، فخَفَّفَ اللَّه بذلك عن رسوله ﷺ، فكان لا يَسْمع شيئًا يَكْرَهُهُ منَ الرَّدِّ عليه، فيرجع إليها، إلا ثَبَّتَتْه وهَوَّنت عليه أمْرَ الناس؛ ما يدلُّ علي قوة يَقِينِها، ووفُورِ عَقْلِها، وصِحَّة عَزْمِها، كانت عاقِلَةً جَلِيلةً دَيّنة مصونةً كَرِيمَةً، وهي من أهل الجنة، وهي أوَّل مَنْ تزوَّجها النبيُّ ﷺ، ولَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا، حتَّى مَاتَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وكان النبيُّ ﷺ يُثنِي عليها، ويُفَضِّلُهَا على سائر أمَّهَات المؤمنين، ويُبَالِغُ في تَعْظِيمِهَا، وكانت تُسَمَّى في الجاهلية (الطَّاهرة)، وكانت مُوسِرَةً، ووَلَدت من رسول الله ﷺ أولادَه كُلَّهم، إلا إبراهيمَ فقط.

روى البخاريُّ (3820) ومسلم (2432) عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: "أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ، أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ". والصخب: هو الصوت المختلط المرتفع، والنصَب: هو المشقَّة والتعّب.

زواج النبيِّ ﷺ من السيدة خديجةَ:

لَمَّا رأت السيدة خديجة - رضي الله عنها - عِظَم أمَانَةِ النبيِّ ﷺ، وحُسْنَ أخْلاقِهِ، وصِدْقَ حَدِيثِهِ، أَحَسَّتْ أَنَّهَا وَجَدَتْ ضَالَّتَهَا المَنْشُودَةَ فِيهِ ﷺ، فَحَدَّثَتْ صَدِيقَتها نَفِيسَةَ بِنْتَ مُنَيَّةَ بما في نفسها، فَذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ خَدِيجَةَ، فَرَضِيَ ﷺ بِذَلِكَ.

قَالَتْ نَفِيسَةُ: كَانَتْ خَدِيجةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً حَازِمَةً جَلْدَةً، شَرِيفَةً، مَعَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا مِنَ الكَرَامَةِ والخَيْرِ، وهِيَ يَوْمَئِذٍ أوْسَطُ قُرَيْشٍ نَسَبًا، وأعْظَمُهم شَرَفًا، وأكْثَرُهمْ مَالًا، وَكُلُّ قَوْمِهَا حَرِيصٌ عَلَى نِكَاحِها لو قدر على ذلك، قَدْ طَلَبُوهَا وبَذَلُوا لَهَا الأَمْوَالَ، فأرْسَلَتْنِي إلى مُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ في عِيرِهَا مِنَ الشَّامِ، فقُلْتُ: يا مُحَمَّدُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ فقَالَ: مَا بِيَدِي مَا أَتَزَوَّجُ بهِ، قُلْتُ: فإنْ كُفِيتَ ذَلِكَ، ودُعِيتَ إلى الجَمَالِ والمَالِ والشَّرَفِ والكَفَاءَةِ، ألَا تُجِيبُ؟ قَالَ: فَمَنْ هِيَ؟ قُلْتُ: خَدِيجَةُ، قَالَ: وكَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ عَلَيَّ، قَالَ: فأنَا أفْعَلُ، قَالَتْ نَفِيسَةُ: فَذَهَبْتُ فأخْبَرْتُ خَدِيجَةَ، فأرْسَلَتْ إِلَيْهِ أنِ ائْتِ لِسَاعَةِ كذَا وكذَا، وأرْسَلَتْ إلى عَمِّهَا عَمْرِو بنِ أَسَدٍ لِيُزَوِّجَهَا، فَحَضَرَ؛ لِأَنَّ أبَاهَا مَاتَ قَبْلَ حَرْبِ الفِجَار.

 خُطْبَةُ أَبِي طَالِبٍ:

ذكر النبيُّ ﷺ أمر خديجةَ لِأَعْمَامِهِ، فَأَقَرُّوا لَهُ ذَلِكَ، ورَضُوها زَوْجَةً لَهُ ﷺ، فخَرَجَ مَعَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وعَمُّهُ حَمْزَةُ، حتَّى دَخَلُوا عَلَى عَمْرِو بنِ أَسَدٍ عَمِّ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فَخَطَبُوا إِلَيْهِ ابْنَةَ أَخِيهِ، وحَضَرَ العَقْدَ رُؤَسَاءُ مُضَرَ، فقامَ أَبُو طَالِبٍ فَخَطَبَ فقَالَ: الحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلَنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ، وزَرْعِ إسْمَاعِيلَ، وضِئْضِئِ – أي: أصل - مَعَدٍّ، وجَعَلَنَا حَضَنَةَ بَيْتِهِ، وسُوَّاسَ حَرَمِهِ، وجَعَلَ لنَا بَيْتًا مَحْجُوجًا، وحَرَمًا آمِنًا، وجَعَلَنَا الحُكَّامَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّ ابنَ أخِي هَذَا مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ، لا يُوزَنُ بِرَجُلٍ إِلَّا رَجَحَ بِهِ شَرَفًا، ونُبْلًا، وفَضْلًا، وعَقْلًا، فَإِنْ كَانَ في المَالِ قُلٌّ، فإنَّ المَالَ ظِلٌّ زَائِلٌ، وأمْرٌ حَائِلٌ، ومُحَمَّدٌ مِمَّنْ قَدْ عَرَفْتُمْ قَرَابَتَهُ، وقَدْ خَطَبَ إلَيْكُمْ رَاغِبًا كَرِيمَتَكُمْ خَدِيجَةَ، وقَدْ بَذَلَ لَهَا مِنَ الصَّدَاقِ مَا حَكَمَ عَاجِلُهُ وآجِلُهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ذَهَبًا وَنَشًّا – النَّشُّ نصفُ الأوقيَّة، وهو عِشْرُونَ درهمًا - وهُوَ وَاللَّهِ بَعْدَ هَذَا لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وخَطَرٌ جَلِيلٌ جَسِيمٌ. فَكَانَ جَوَابُ وَلِيِّ خَدِيجَةَ: هَذَا البِضْعُ لَا يُقْرَعُ أَنْفُهُ - يُرِيدُ أنه كفءٌ كريمٌ لا يُرَدُّ نكَاحُهُ.

وبَنَى – أي: دخل - رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِخَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا، وَنَحَرَ جَزُورًا أَوْ جَزُورَيْنِ، وأطْعَمَ النَّاسَ، فكَانَتْ خَدِيجَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَها النبيُّ ﷺ.

 عُمرُ النَّبِيِّ ﷺ لَمَّا تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ:

كَانَ عُمُرُ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - خَمْسًا وعِشْرِينَ سَنَةً، وذَلِكَ بَعْدَ رُجُوعِهِ منَ الشَّامِ بِشَهْرَيْنِ، وكَانَ عُمُرُهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يَوْمَئِذٍ أرْبَعِينَ سَنَةً، وقد دخل النَّبِيُّ ﷺ بِخَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي البَيْتِ الذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ، وفِيهِ وَلَدَتْ جَمِيعَ أَوْلَادِهَا، وفِيهِ تُوُفِّيَتْ، ولَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ ﷺ سَاكِنًا فِيهِ حَتَّى خَرَجَ إِلَى المَدِينَةِ مُهَاجِرًا، فَأَخَذَهُ عَقِيلُ بنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي اللَّه عنه.


للاستزادة


  1. الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 62).
  2. سيرة ابن هشام (1/ 226).

اخترنا لكم


قبل الرسالة والنبوة مرافقة النَّبِيِّ ﷺ لعمِّه في السفر إلى الشام
مرافقة النَّبِيِّ ﷺ لعمِّه في السفر إلى الشام

عَزَمت قُريش أن يُجَهِّزُوا عِيرًا إلى الشَّامِ بِتِجَارَاتٍ وأموال عِظَام، وعزم أَبُو طَالِبٍ المَسِيرَ في تلك العِير، وأراد النبيُّ ﷺ مرافقة عمِّه أ (...)

قبل الرسالة والنبوة نجاة والد النبيِّ ﷺ من الذبح
نجاة والد النبيِّ ﷺ من الذبح

لَمّا أراد عبد المطَّلب، جَدُّ النبيِّ ﷺ أن يَحفِر بئر زمزم، أحسَّ بالضَّعف لَمَّا تحدَّته قبائل قريش، حيث لم يكن لديه إلّا ابنه الحارث، فنذر لله تعال (...)

قبل الرسالة والنبوة وفاة عبد المطلب جَدِّ النبيِّ ﷺ
وفاة عبد المطلب جَدِّ النبيِّ ﷺ

كَانَ النبيُّ ﷺ في كَفَالَةِ جَدِّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فلَمَّا بَلَغَ ثَمَانِية أعوام، تُوُفِّيَ جَدُّهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ.دُفِن عبد المطلب جد ال (...)

قبل الرسالة والنبوة أمهات النبيِّ ﷺ وإخوته من الرضاع
أمهات النبيِّ ﷺ وإخوته من الرضاع

1. كانت أوَّلُ من أرضعته ﷺ هي أمَّه آمِنةَ، قيل: أرضعته ثلاثةَ أيّام، وقيل: سبعًا، وقيل: تسعًا.2. ثمّ أرضعته ثُوَيْبَةُ مَوْلاة أبي لهب مع ابن لها ر (...)