حادثة شقِّ صدر النبي ﷺ

كان النبيُّ ﷺ يُعِدُّه ربُّه على عينه منذ نشأته لتحمُّل الرسالة ومَشاقِّها، وما تحتاجه من قوة الإيمان، والأخلاق الحسنة، ونقاء القلب والصدر، وطيب الظاهر والباطن، وكان من ذلك ما وقع له ﷺ من شقِّ صدره أكثرَ من مرة؛ لإخراج الضغائن وما يصيب النفس البشرية عادة من دواخل خبيثة.

قال الغزاليُّ في "فقه السيرة" (ص 66): "ولعلّ أحاديث شقِّ الصدر تُشير إلى هذه الحَصَانات التي أضْفاها الله على محمد ﷺ، فجعلته من طفولته بنَجْوةٍ قَصِيَّة عن مَزَالق الطبع الإنسانيِّ، ومَفاتن الحياة الأرضية".

 حَادِثَةُ شَقِّ صدره الشَّرِيفِ ﷺ:

عَنْ عُتْبَةَ بنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رسُولَ الله ﷺ، فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ أوَّلُ شَأْنِكَ يا رَسُولَ الله؟

فقَالَ رسُولُ الله ﷺ: "كَانَتْ حَاضِنَتِي مِنْ بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ، فَانْطَلَقْتُ أنَا وابْنٍ لَهَا فِي بَهْمٍ - وهي ولد الضَّأْنِ - لنَا، ولَمْ نَأْخُذْ مَعَنَا زَادًا، فَقُلْتُ: يا أَخِي، اذْهَبْ فَأْتِنَا بِزَادٍ مِنْ عِنْدِ أُمِّنَا – أي: حليمةَ السعديةِ - فَانْطَلَقَ أَخِي، ومَكَثْتُ عِنْدَ الْبَهْمِ، فَأَقْبَلَ طَيْرَانِ أبْيَضَانِ، كَأَنَّهُمَا نَسْرَانِ، فقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أهُوَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَقْبَلَا يَبْتَدِرَانِي – أي: يُسرِعان نحوي - فَأَخَذَانِي فَبَطَحَانِي إِلَى القَفَا، فَشَقَّا بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا قَلْبِي، فَشَقَّاهُ، فأخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ، فقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: ائْتِنِي بِمَاءِ ثَلْجٍ، فَغَسَلَا بِهِ جَوْفِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِمَاءِ بَرَدٍ، فَغَسَلَا بِهِ قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِالسَّكِينَةِ، فَذَرَّاهَا – أي: نثراها - فِي قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: حُصْهُ، فَحَاصَهُ – أي: خاطه - وخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ انْطَلَقَا وتَرَكَانِي، وَفَرِقْتُ – أي: خفتُ وفزعت - فَرَقًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى أُمِّي فَأَخْبَرْتُهَا بِالذِي لَقِيتُهُ، فأشْفَقَتْ عَلَيَّ أَنْ يَكُونَ أُلْبِسَ بي – أي: خُلِط على عقلي - قَالَتْ: أُعِيذُكَ بِالله، فَرَحَّلَتْ بَعِيرًا لَهَا، وَحَمَلَتْنِي عَلَى الرَّحْلِ، ورَكِبَتْ خَلْفِي حتَى بَلَغْنَا إِلَى أُمِّي، فقَالَتْ: أَوَأَدَّيْتُ أَمَانَتِي وذِمَّتِي؟ وحَدَّثَتْهَا بِالذِي لَقِيتُ، فَلَمْ يَرُعْهَا ذَلِكَ، وقَالَتْ: إنِّي رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ" .

وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ أتَاهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ القَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءَ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ – أي: جَمَعه وضمَّ بعضه على بعض - ثُمَّ أَعَادَهُ في مَكَانِهِ، وجَاءَ الغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ؛ يَعْنِي ظِئْرَه - الظِّئْرُ: الْمُرْضِعَةُ غيرَ ولدها - فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِل، فَاسْتَقْبَلُوهُ وهُوَ مُنْتَقِعُ – أي: متغيِّر - اللَّوْنِ. قَالَ أنَسٌ: وقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ المَخِيطِ فِي صَدْرِهِ.

عُمُرُ النبيِّ ﷺ عِنْدَمَا شُقَّ صَدْرُهُ:

قيل: كان عمره سنتين، وقيل: أربعًا، وجزم العراقيُّ وابن حجر في سيرته أنه كان في الرابعة ﷺ.

تَكْرَارُ شَقِّ صَدْرِه ﷺ:

وقَدْ رُوي تَكْرار شقِّ صدره ﷺ أكثرَ من مرَّة ، منها وهو ابن عشر سنين، وأخرى عند المبعث، إلا أنه لم يصحَّ تَكرار شقِّ صدره إلا عند رحلة الإسراء والمعراج.

أخرج البخاريُّ ومسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رسُولُ الله ﷺ: "فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وأنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عَليهِ السَّلامُ - فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ..." وذَكَرَ حَدِيثَ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ.

قَالَ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 604): "ثُمَّ وَقَعَ شَقُّ الصَّدْرِ عِنْدَ إِرَادَةِ العُرُوجِ بِهِ ﷺ إِلَى السَّمَاءِ لِيَتَأَهَّبَ لِلْمُنَاجَاةِ".


للاستزادة


  1. الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 91).
  2. فقه السيرة للغزالي (ص 66).

اخترنا لكم


دلائل النبوة ما سُمع من اليهود والرهبان من الإخبار عن نبوته ﷺ
ما سُمع من اليهود والرهبان من الإخبار عن نبوته ﷺ

كَانَتْ الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ، وَالرُّهْبَانُ مِنْ النَّصَارَى، قَدْ تَحَدَّثُوا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، لَمَّا تَقَارَبَ مِنْ زَمَانِهِ بما (...)

دلائل النبوة وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ

من فضائل النبيِّ ﷺ أنَّ الله تعالى فضَّله على سائر الأنبياء والمرسلين: فقد أجمعت الأمة بأنَّ نبيَّنا محمدًا ﷺ هو (...)

دلائل النبوة ما دار بينه ﷺ وبين المشركين وصبره على بلوى الدعوة والأذية
ما دار بينه ﷺ وبين المشركين وصبره على بلوى الدعوة والأذية

لقد كانت حياة النبيِّ ﷺ كلُّها صبرًا لا ينقطع، وجهادًا ومجاهدة، وعملًا دائبًا، منذ أن نزلت عليه أوَّل آية، وحتى آخر لحظة في حياته، وقد أدرك ﷺ طبيعة ما (...)

دلائل النبوة صفات النبيِّ ﷺ الخَلْقية والخاتم بين كتفيه
صفات النبيِّ ﷺ الخَلْقية والخاتم بين كتفيه

حبا الله تعالى رسوله المرتضى، ونبيَّه المجتبى، وحبيبه المصطفى ﷺ بصفاتٍ عظيمة جليلة، سواء أكانت صفاتٍ خُلُقيةً ظهرت على سلوكه (...)