لقد كان الرسول ﷺ المثلَ الأعلى في الحِلم، وكان الأسوةَ الحسنة والقدوة في سَعة الصدر، وسماحة النفس، ويتجلَّى ذلك في حِلمه ﷺ في تعامله مع أصناف الناس: الأعراب والأعداء والمنافقين والكفَّار وغيرهم.
حِلْم النبيِّ ﷺ واحتمال الجاهلين:
روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - ضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ ﷺ قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
قال ابن دقيق العيد في شرح الأربعين النووية (ص: 95): "ولا يظن ظانٌّ أن حُسن الخلق عبارة عن لين الجانب، وترك الفواحش والمعاصي فقط، وأن من فعل ذلك فقد هذَّب خُلقه؛ بل حُسن الخُلق ما ذكرناه من صفات المؤمنين، والتخلُّق بأخلاقهم.
ومن حسن الخُلق احتمالُ الأذى؛ فقد ورد في الصحيحين: أن أعرابيًّا جذب بُرد النبيِّ ﷺ حتى أثَّرت حاشيته في عاتق النبي ﷺ وقال: يا محمدُ، مُر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله ﷺ ثم ضحك وأمر له بعطاء".
قال النووي في شرح مسلم (7/ 147): "فِيهِ احْتِمَالُ الْجَاهِلِينَ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ مُقَابَلَتِهِمْ، وَدَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، وَإِعْطَاءُ مَنْ يُتَأَلَّفُ قَلْبَهُ، وَالْعَفْوُ عَنْ مُرْتَكِبِ كَبِيرَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا بِجَهْلِهِ، وَإِبَاحَةُ الضَّحِكِ عِنْدَ الْأُمُورِ الَّتِي يُتَعَجَّبُ مِنْهَا فِي الْعَادَةِ، وَفِيهِ كَمَالُ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ الْجَمِيلِ".
حِلم النَّبيِّ ﷺ على الكفَّار رغم شدة إيذائهم:
روى البخاري ومسلم عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها زوجِ النَّبيِّ ﷺ أنَّها قالت للنَّبيِّ ﷺ: ((هل أتى عليكَ يومٌ كان أشَدَّ من يومِ أُحُدٍ؟ فقال: لقَد لَقِيتُ مِن قَومِكِ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهم يَومَ العَقَبَةِ؛ إذْ عَرَضْتُ نَفسي على ابنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أرَدْتُ، فانطَلَقْتُ وأنا مَهمومٌ على وَجهي، فلم أستَفِقْ إلَّا بقَرنِ الثَّعَالِبِ، فرَفَعتُ رَأسي فإذا أنا بسَحابةٍ قد أظَلَّتني، فنَظَرتُ فإذا فيها جِبريلُ، فناداني، فقال: إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قد سمِعَ قَولَ قَومِك لك وما ردُّوا عليك، وقد بَعَث إليك ملَكَ الجِبالِ لتَأمُرَه بما شِئتَ فيهم، قال: فناداني مَلَكُ الجِبالِ وسَلَّم عَلَيَّ، ثمَّ قال: يا محمَّدُ، إنَّ اللهَ قد سمِعَ قَولَ قَومِك لك، وأنا مَلَكُ الجِبالِ، وقد بعثَني ربُّك إليكَ لتَأمُرَني بأمرِك، فما شِئتَ؛ إنْ شِئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبَينِ، فقال له رسولُ اللهِ ﷺ: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبُدُ اللهَ وَحدَه لا يُشرِكُ به شيئًا)) .
قال ابنُ حَجَر في فتح الباري (6/ 316): "في هذا الحديثِ بَيانُ شَفَقةِ النَّبيِّ ﷺ على قومِه، ومزيدِ صَبرِه وحِلمِه، وهو مُوافِقٌ لقَولِه تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: 159]، وقَولِه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]".
حِلم النَّبيِّ ﷺ على الادِّعاء عليه بالباطل:
روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ، آثَرَ النَّبِيُّ ﷺ أُنَاسًا فِي القِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ العَرَبِ فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي القِسْمَةِ، قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ القِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، فَأَتَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟! رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ».
قال ابن حجر في فتح الباري (10/ 512): "وَفِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْفَضْلِ قَدْ يُغْضِبُهُمْ مَا يُقَالُ فِيهِمْ مِمَّا لَيْسَ فِيهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ؛ كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ اقْتِدَاءً بِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: (قَدْ أُوذِيَ مُوسَى) إِلَى قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذَوْا مُوسَى﴾".