لقد كان النبي ﷺ الأسوة الحسنة في الحِلم والعفو، وقد بلَغ النَّبيُّ ﷺ غايةَ الحِلمِ والعَفوِ، فكان النبي ﷺ يحلم ويعفو عن الجاهلين، ويصبر على الأذى، والسُّنَّةُ النَّبويَّةُ حافِلةٌ بمواقِفِ النبي ﷺ في الحِلمِ، وقد قال رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلْأَشَجِّ، أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: ((إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ)). رواه مسلم.
صور من حلم النبي ﷺ:
• عن عائِشةَ رضِي اللهُ عنها قالت: "ما انتقَم رسولُ اللهِ ﷺ لنَفسِه في شيءٍ قطُّ إلَّا أن تُنتهَكَ حُرمةُ اللهِ، فينتقِمَ بها للهِ" أخرجه البخاري (6126) ومسلم (2327).
• قصَّةُ الأعرابيِّ الذي جبَذ النَّبيَّ ﷺ برِدائِه جَبذةً شديدةً؛ فعن أنسِ بنِ مالِكٍ رضِي اللهُ عنه قال: كنْتُ أمشي معَ رسولِ اللهِ ﷺ، وعليه بُردٌ نَجرانيٌّ غليظُ الحاشِيةِ، فأدرَكه أعرابيٌّ، فجبَذه برِدائِه جبذةً شديدةً، حتَّى نظرْتُ إلى صَفْحةِ عاتِقِ رسولِ اللهِ ﷺ قد أثَّرَت بها حاشِيةُ البُردِ مِن شِدَّةِ جَبذتِه! ثُمَّ قال: يا مُحمَّدُ، مُرْ لي مِن مالِ اللهِ الذي عندَك، فالتفَت إليه رسولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ ضحِك، ثُمَّ أمَر له بعَطاءٍ. أخرجه البخاري (3149) ومسلم (1057).
• وعن أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه: أنَّ رجُلًا أتى النَّبيَّ ﷺ يتقاضاه فأغلَظ، فهمَّ به أصحابُه، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: ((دَعوه؛ فإنَّ لصاحِبِ الحقِّ مقالًا))، ثُمَّ قال: ((أعطوه سِنًّا مِثلَ سِنِّه)) - أي ناقة لها سنٌّ معيَّنة - قالوا: يا رسولَ اللهِ، لا نجِدُ إلَّا أمثَلَ مِن سِنِّه، فقال: ((أعطوه؛ فإنَّ مِن خيرِكم أحسَنَكم قَضاءً)) أخرجه البخاري (2306) ومسلم (1601).
• وعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه قال: "كأنِّي أنظُرُ إلى النَّبيِّ ﷺ يحكي نَبيًّا مِن الأنبياءِ ضرَبه قومُه فأدمَوه، فهو يمسَحُ الدَّمَ عن وَجهِه، ويقولُ: ربِّ اغفِرْ لقومي؛ فإنَّهم لا يعلَمونَ" أخرجه البخاري (6929) ومسلم (1792).
• وعن أنسٍ رضِي اللهُ عنه قال: "كان رسولُ اللهِ ﷺ مِن أحسَنِ النَّاسِ خُلقًا، فأرسَلني يومًا لحاجةٍ، فقلْتُ: واللهِ لا أذهَبُ، وفي نَفسي أن أذهَبَ لِما أمَرني به نبيُّ اللهِ ﷺ، قال: فخرجْتُ حتَّى أمرَّ على صِبيانٍ وهم يلعَبونَ في السُّوقِ، فإذا رسولُ اللهِ ﷺ قابِضٌ بقَفاي مِن وَرائي، فنظرْتُ إليه وهو يضحَكُ، فقال: يا أُنَيسُ، اذهَبْ حيثُ أمرْتُك، قلْتُ: نعَم، أنا أذهَبُ يا رسولَ اللهِ، قال أنسٌ: واللهِ لقد خدَمْتُه سبعَ سنينَ أو تِسعَ سنينَ ما علمْتُ قال لشيءٍ صنعْتُ: لِمَ فعلْتَ كذا وكذا؟ ولا لشيءٍ تركْتُ: هلَّا فعلْتَ كذا وكذا" أخرجه مسلم (2309).
• وعن عائِشةَ رضِي اللهُ عنها زوجِ النَّبيِّ ﷺ، أنَّها قالت للنَّبيِّ ﷺ: هل أتى عليك يومٌ كان أشَدَّ مِن يومِ أحُدٍ؟ قال: لقد لَقِيتُ مِن قومِك ما لقيتُ، وكان أشَدُّ ما لقيتُ منهم يومَ العَقَبةِ؛ إذ عرضْتُ نَفسي على ابنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عَبدِ كُلالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أردْتُ، فانطلقْتُ وأنا مهمومٌ على وَجهي، فلم أستفِقْ إلَّا وأنا بقَرنِ الثَّعالِبِ، فرفعْتُ رأسي فإذا أنا بسَحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرْتُ فإذا فيها جِبريلُ، فناداني، فقال: إنَّ اللهَ قد سمِع قولَ قومِك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعَث اللهُ إليك ملَكَ الجِبالِ لتأمُرَه بما شئْتَ فيهم، فناداني ملَكُ الجِبالِ، فسلَّم عليَّ، ثُمَّ قال: يا مُحمَّدُ، فقال: ذلك فيما شئْتَ، إن شئْتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبَينِ، فقال النَّبيُّ ﷺ: ((بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهم مَن يعبُدُ اللهَ وَحدَه لا يُشرِكُ به شيئًا)) أخرجه البخاري (3231) ومسلم (1795).
• وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضِي اللهُ عنه قال: "بَينَما نحن عندَ رسولِ اللهِ ﷺ وهو يقسِمُ قَسمًا أتاه ذو الخُوَيصرةِ - وهو رجُلٌ مِن بَني تميمٍ - فقال: يا رسولَ اللهِ، اعدِلْ، فقال: وَيلَك! ومَن يعدِلُ إذا لم أعدِلْ؟! قد خِبْتَ وخسِرْتَ إن لم أكنْ أعدِلُ! فقال عُمرُ: يا رسولَ اللهِ، ائذَنْ لي فيه فأضرِبَ عُنقَه، فقال: دَعْه؛ فإنَّ له أصحابًا يحقِرُ أحدُكم صلاتَه معَ صلاتِهم، وصِيامَه معَ صِيامِهم، يقرؤونَ القرآنَ لا يُجاوِزُ تراقيَهم، يمرُقونَ مِن الدِّينِ كما يمرُقُ السَّهمُ مِن الرَّميَّةِ، ينظُرُ إلى نَصلِه فلا يوجَدُ فيه شيءٌ، ثُمَّ ينظُرُ إلى رِصافِه فما يوجَدُ فيه شيءٌ، ثُمَّ ينظُرُ إلى نَضِيِّه - وهو قِدحُه - فلا يوجَدُ فيه شيءٌ، ثُمَّ ينظُرُ إلى قُذَذِه - القُذَذُ: ريشُ السَّهمِ - فلا يوجَدُ فيه شيءٌ، قد سبَق الفَرْثَ والدَّمَ، آيتُهم: رجُلٌ أسوَدُ إحدى عَضُدَيه مِثلُ ثَديِ المرأةِ، أو مِثلُ البَضعةِ تَدَرْدَرُ، ويخرُجونَ على حينِ فُرقةٍ مِن النَّاسِ، قال أبو سعيدٍ: فأشهَدُ أنِّي سمعْتُ هذا الحديثَ مِن رسولِ اللهِ ﷺ، وأشهَدُ أنَّ عليَّ بنَ أبي طالِبٍ قاتَلهم وأنا معَه، فأمَر بذلك الرَّجلِ، فالتُمِس، فأُتِي به حتَّى نظرْتُ إليه على نَعتِ النَّبيِّ ﷺ الذي نعَته" أخرجه البخاري (3610) ومسلم (1064).
• وعن زيدِ بنِ أرقَمَ رضِي اللهُ عنه قال: سحَر النَّبيَّ ﷺ رجُلٌ مِن اليَهودِ، فاشتكى لذلك أيَّامًا، قال: فجاءه جِبريلُ عليه السَّلامُ، فقال: إنَّ رجُلًا مِن اليَهودِ سحَرك، عقَد لك عُقَدًا في بِئرِ كذا وكذا، فأرسِلْ إليها مَن يجيءُ بها، فبعَث رسولُ اللهِ ﷺ عليًّا رضِي اللهُ تعالى عنه، فاستخرَجها، فجاء بها فحلَّها، قال: فقام رسولُ اللهِ ﷺ كأنَّما نُشِطَ مِن عِقالٍ، فما ذكَر لذلك اليَهوديِّ، ولا رآه في وَجهِه قطُّ حتَّى مات. رواه النسائي (4080)، وأحمد (19267). أي: لم يذكُرِ النَّبيُّ ﷺ لليهوديِّ السَّاحِرِ سِحرَه الذي شاهَده، والظَّاهِرُ أنَّه أراد: لم يُعاتِبْه على ذلك؛ بل عفا عنه، كما هو هَديُه ﷺ في العَفوِ والصَّفحِ عمَّن اعتدى عليه، فلا يُنافي ما ورَد: أنَّه ﷺ أخَذه، فاعترَف.
• وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رضِي اللهُ عنه: أنَّ امرأةً يهوديَّةً أتَت رسولَ اللهِ ﷺ بشاةٍ مسمومةٍ، فأكل منها، فجيء بها إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فسألها عن ذلك، فقالت: أردْتُ لأقتُلَك، قال: ((ما كان اللهُ لِيُسلِّطَكِ على ذاك - قال: أو قال: عَلَيَّ- قال: قالوا: ألا نقتُلُها؟ قال: ((لا))، قال: فما زلْتُ أعرِفُها في لَهَواتِ رسولِ اللهِ ﷺ. أخرجه البخاري (2617)، ومسلم (2190).
• قال جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ رضِي اللهُ عنهما: كنَّا في غَزاةٍ، فكسَع رجُلٌ مِن المُهاجِرينَ رجُلًا مِن الأنصارِ، فقال الأنصاريُّ: يا لَلْأَنصارِ! وقال المُهاجِريُّ: يا لَلْمُهاجِرينَ! فسمَّعها اللهُ رسولَه ﷺ قال: ما هذا؟ فقالوا: كسَع رجُلٌ مِن المُهاجِرينَ رجُلًا مِن الأنصارِ، فقال الأنصاريُّ: يا لَلْأَنصارِ! وقال المُهاجِريُّ: يا لَلْمُهاجِرينَ! فقال النَّبيُّ ﷺ: ((دَعوها؛ فإنَّها مُنتِنةٌ))، قال جابِرٌ: وكانت الأنصارُ حينَ قدِم النَّبيُّ ﷺ أكثَرَ، ثُمَّ كثُر المُهاجِرونَ بَعدُ، فقال عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ: أوَقد فعَلوا؟ واللهِ لَئِنْ رجَعْنا إلى المدينةِ ليُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فقال عُمرُ بنُ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه: دَعْني يا رسولَ اللهِ أضرِبْ عُنقَ هذا المُنافِقِ، قال النَّبيُّ ﷺ: ((دَعْه؛ لا يتحدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحمَّدًا يقتُلُ أصحابَه)) أخرجه البخاري (4907) ومسلم (2584).
• وعن المِقدادِ بنِ الأسوَدِ رضِي اللهُ عنه قال: أقبلْتُ أنا وصاحِبانِ لي، وقد ذهبَت أسماعُنا وأبصارُنا مِن الجَهدِ، فجعلْنا نعرِضُ أنفُسَنا على أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، فليس أحدٌ منهم يقبَلُنا، فأتَينا النَّبيَّ ﷺ، فانطلَق بنا إلى أهلِه، فإذا ثلاثةُ أعنُزٍ، فقال النَّبيُّ ﷺ: احتلِبوا هذا اللَّبنَ بَينَنا، قال: فكنَّا نحتلِبُ، فيشرَبُ كُلُّ إنسانٍ منَّا نَصيبَه، ونرفَعُ للنَّبيِّ ﷺ نَصيبَه، قال: فيجيءُ مِن اللَّيلِ، فيُسلِّمُ تسليمًا لا يوقِظُ نائِمًا، ويُسمِعُ اليَقظانَ، قال: ثُمَّ يأتي المسجِدَ، فيُصلِّي، ثُمَّ يأتي شرابَه فيشرَبُ، فأتاني الشَّيطانُ ذاتَ ليلةٍ وقد شرِبْتُ نَصيبي، فقال: مُحمَّدٌ يأتي الأنصارَ فيُتحِفونَه، ويُصيبُ عندَهم، ما به حاجةٌ إلى هذه الجُرعةِ، فأتَيتُها فشرِبْتُها، فلمَّا أن وغَلَت في بَطني، وعلِمْتُ أنَّه ليس إليها سبيلٌ، قال: ندَّمني الشَّيطانُ، فقال: وَيحَك، ما صنَعْتَ؟ أشرِبْتَ شرابَ مُحمَّدٍ؟ فيجيءُ فلا يجِدُه، فيدعو عليك، فتَهلِكُ، فتذهَبُ دُنياك وآخِرتُك، وعَلَيَّ شَمْلةٌ إذا وضعْتُها على قَدَمَيَّ خرَج رأسي، وإذا وضعْتُها على رأسي خرَج قَدَماي، وجعَل لا يجيئُني النَّومُ، وأمَّا صاحباي فناما، ولم يصنَعا ما صنعْتُ، قال: فجاء النَّبيُّ ﷺ، فسلَّم كما كان يُسلِّمُ، ثُمَّ أتى المسجِدَ فصلَّى، ثُمَّ أتى شرابَه، فكشَف عنه، فلم يجِدْ فيه شيئًا، فرفَع رأسَه إلى السَّماءِ، فقُلْتُ: الآنَ يدعو عليَّ فأهلِكُ! فقال: ((اللَّهمَّ أطعِمْ مَن أطعَمني، وأسْقِ مَن أسقاني)) أخرجه مسلم (2055).
• قال النَّوَويُّ في شرح مسلم (14/ 15): "وفيه ما كان عليه النَّبيُّ ﷺ مِن الحِلمِ والأخلاقِ المُرضِيَّةِ، والمحاسِنِ المُرضِيةِ، وكَرَمِ النَّفسِ، والصَّبرِ، والإغضاءِ عن حُقوقِه؛ فإنَّه ﷺ لم يسألْ عن نَصيبِه مِن اللَّبنِ" .