صور من صبر النبي ﷺ

لقد أدرك ﷺ طبيعة ما سيُصيبه منذ بَدْء بعثته، حيث ذهبت به خديجة - رضي الله عنها - إلى ورقةَ بنِ نَوْفلٍ، الذي قال له: يا ليتني كنت حيًّا إذ يُخرجك قومك، فقال له ﷺ: (أوَمُخرِجيَّ هم؟)، قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودي. رواه البخاريُّ ومسلم.

فصارت حياته ﷺ مَلْأى بالابتلاءات حتى آخر لحظة في حياته، فصبر صبرًا جميلًا، لا سخط فيه، ولا جزع، ولا شكاية.

لقد كانت حياة النبيِّ ﷺ كلُّها صبرًا لا ينقطع، وجهادًا ومجاهدة، وعملًا دائبًا، منذ أن نزلت عليه أوَّل آية، وحتى آخر لحظة في حياته، لذا؛ فالحديث عن صبره ﷺ هو في حقيقة الأمر حديث عن حياته كلِّها، وعن سيرته بجميع تفاصيلها وأحداثها.

صور من صبر النبيِّ ﷺ:

• صبره ﷺ على إيذاء الكفَّار؛ فقد أُوذي النبيُّ ﷺ أذًى شديدًا من الكفَّار، فصَبَر، ولم يتعجَّل هلاكهم، ولم يدعُ عليهم بالاستئصال؛ بل إنه سأل الله تعالى أن يُخرِج من أصلابهم من يوحِّد الله تعالى، ولا يُشرك به شيئًا؛ عن عائِشةَ - رضِي اللهُ عنها - زوجِ النَّبيِّ ﷺ أنَّها قالت للنَّبيِّ ﷺ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ( )، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا). رواه البخاريُّ ومسلم.

• صبره ﷺ على إيذاء المنافقين بعد هجرته للمدينة المنوَّرة، حيث كانوا يُظْهِرون الإسلام، ويُبطنون الكفر، ويُثيرون الخلاف والنزاع بين المسلمين، ويخطِّطون للقضاء على دعوة الإسلام، ويتربَّصون بالنبيِّ ﷺ والصحابة، حتى إنهم خاضوا في عِرضه ﷺ وصبر عليهم مع أنه يعلم أشخاصهم بأعينهم؛ حتى لا يُقال: إن محمدًا يقتل أصحابه، وعاملهم بظاهرهم؛ عن جابر – رضي الله عنه - قال: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ، فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا، وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: (مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ؟) ثُمَّ قَالَ: (مَا شَأْنُهُمْ؟)، فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ)، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بْنُ سَلُولَ: أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلاَ نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الخَبِيثَ؟ لِعَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ). رواه البخاريُّ ومسلم.

• صبره ﷺ على إيذاء وغلظة بعض المسلمين، وخاصَّةً بعضَ الأعراب من المسلمين، كما صبر ﷺ على إيذاء بعض أصحابه؛ مثل: مِسْطَحٍ وغيره ممن خاض في عِرضه في حادثة الإفك وتأثَّر بحديث المنافقين؛ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ، آثَرَ النَّبِيُّ ﷺ أُنَاسًا فِي القِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ العَرَبِ، فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي القِسْمَةِ، قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ القِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَأَتَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: (فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟! رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ). رواه البخاريُّ ومسلم.

• صبره ﷺ على المرض، وكان مرضه أشدَّ من مرض الناس؛ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟ قَالَ: (أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ)، قُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: (أَجَلْ، ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا). رواه البخاريُّ ومسلم.

• صبره ﷺ على موت الحبيب والولد، فصبر على موت عمِّه أبي طالب دون أن يُسلِم، وعلى موت زوجته خديجة - رضي الله عنها – وعلى قتِل عمِّه حمزةَ - رضي الله عنه - وتوفِّي أولاده كلُّهم في حياته إلا فاطمةَ - رضي الله عنها - حتى إنه بكى عند موت ولده إبراهيم؛ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا – أي: زوج مرضعته - لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (يَا بْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ)، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ ﷺ: (إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ). رواه البخاريُّ ومسلم.

• صبره ﷺ على الفقر وقلَّة ذات اليد، وشظف العيش، وألم الحرمان، وقرص الجوع، مع أنه كان يستطيع أن يعيش في رغد من الدنيا، خاصة بعد الغزوات وغنائمها؛ عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ طَعَامٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ). رواه البخاريُّ ومسلم.

• أما صبره ﷺ على الطاعة، فكان يجتهد في العبادة والطاعة حتى تتفطَّر قدماه من طول القيام، ويُكثر من الصيام والذِّكر وغيرها من العبادات، ثم يقول: (أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!)؛ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا صَلَّى، قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَصْنَعُ هَذَا، وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ، أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا). رواه البخاريُّ ومسلم.

فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على إمام الصابرين.

للاستزادة


  1. السيرة النبوية لابن هشام، (2/ 201).
  2. السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة لأبي شُهبة (1/293).

اخترنا لكم


الصبر صبره ﷺ
صبره ﷺ

لقد كانت حياة النبيِّ ﷺ كلُّها صبرًا لا ينقطع، وجهادًا ومجاهدة، وعملًا دائبًا، منذ أن نزلت عليه أوَّل آية، وحتى آخر لحظة في حياته، لذا؛ فالحديث عن صبر (...)

الصبر صبر النبيِّ ﷺ على إيذاء الكفار
صبر النبيِّ ﷺ على إيذاء الكفار

لقد علم النبيُّ ﷺ ما ينتظره من صبر ومصابرة، وجهد ومشقَّة، في سبيل تبليغ رسالته، منذ بَدْء نزول الوحي عليه؛ حين قال ورقةُ بنُ نوفلٍ للنبيِّ ﷺ حين ذهبت (...)