النبي ﷺ يخبر عن رفع الأمانة

الأمانة ضِدُّ الْخِيَانَةِ، وَالْمُرَادُ بِرَفْعِهَا إِذْهَابُهَا بِحَيْثُ يَكُونُ الْأَمِينُ مَعْدُومًا أَوْ شِبْهَ الْمَعْدُومِ، وفي آخر الزمان، تتغيَّر قيم الناس وأخلاقهم، ومن هذه التغيرات، يكون رفع الأمانة.

والأمانة قيمة أخلاقية وصفة أساسية في الإسلام، وتعني الحفاظ على الفروض والحقوق والودائع، والصدق في القول والفعل، والاجتهاد في العمل وإتقانه، وهي صفة يتحلى بها المسلم في جميع جوانب حياته، في تعامله مع الله، ومع الناس، ومع نفسه.

أهمية الأمانة في الإسلام:

الأمانة هي أساس الدين، وقِوَام المجتمع، وهي صفة الأنبياء والصالحين، وقد حثَّ الإسلام على الأمانة في كثير من الآيات والأحاديث، منها:

 قال الله تعالى: ﴿{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}﴾ [النساء: 58]. قال القرطبي في تفسيره (5/ 255): "هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ الدِّينِ وَالشَّرْعِ".

وقال تعالى: ﴿{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} ﴾ [المؤمنون: 8].

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا خَطَبَنَا نَبِىُّ اللَّهِ ﷺ إِلاَّ قَالَ: «لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ» رواه أحمد والبيهقي وصححه الألباني.

الأمانة صفة الأنبياء والرسل، ففي آيات كثيرة جاء وصف الرسل والأنبياء بوصف الأمانة، ومن ذلك سورة الشعراء، ففي قول كل من نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشُعيب – عليهم السلام - لقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}، ونبيُّنا ﷺ كان يلقَّب قبل الرسالة بالأمين.

الأمانة علامة الإيمان وبراءة من النفاق: عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ» رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.

رفع الأمانة في آخر الزمان:

في آخر الزمان، يشهد الناس تغيرات كبيرة في القيم والأخلاق، ومن بين هذه التغيرات، يأتي رفع الأمانة، حيث يتخلَّى الناس عن هذه الصفة العظيمة، ويصيرون غيرَ مبالين بحقوق الآخرين، ولا يَصدُقون في أقوالهم وأفعالهم، ولا يجتهدون في أعمالهم، ولا يُتقنونها.

ورفع الأمانة في آخر الزمان هو من العلامات التي تدلُّ على قُرب الساعة، ويجب علينا أن نكون حذرين من هذه العلامة، وأن نستعد لها، بتقوية إيماننا، والاستعداد للفتن، ومجاهدة الشهوات، ومراقبة النفس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أحاديث وردت في رفع الأمانة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ))، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: ((إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)) رواه البخاري.

قال ابن حجر في فتح الباري (11/ 334): "مَعْنَى (أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ) أَنَّ الْأَئِمَّةَ قَدِ ائْتَمَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمُ النَّصِيحَةَ لَهُمْ، فَيَنْبَغِي لَهُمْ تَوْلِيَةُ أَهْلِ الدِّينِ، فَإِذَا قَلَّدُوا غَيْرَ أَهْلِ الدِّينِ، فَقَدْ ضَيَّعُوا الْأَمَانَةَ الَّتِي قَلَّدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهَا".

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ))، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)) رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.

وروى البخاري ومسلم عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللّهِ ﷺ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ: حَدَّثَنَا: «أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ» وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ المَجْلِ؛ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ».

قال النووي في شرح مسلم (2/ 168): "فَإِذَا اسْتَمْكَنَتِ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِ الْعَبْدِ، قَامَ حِينَئِذٍ بِأَدَاءِ التَّكَالِيفِ، وَاغْتَنَمَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَجَدَّ فِي إِقَامَتِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ: (فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ)، وَهُوَ الْأَثَرُ الْيَسِيرُ، كَذَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ سَوَادٌ يَسِيرٌ، وَقِيلَ: هُوَ لَوْنٌ يَحْدُثُ مُخَالِفٌ لِلَّوْنِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَأَمَّا (الْمَجْلُ)، فهُوَ التَّنَفُّطُ الَّذِي يَصِيرُ فِي الْيَدِ مِنَ الْعَمَلِ بِفَأْسٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَيَصِيرُ كَالْقُبَّةِ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ... وَ(مُنْتَبِرًا): مُرْتَفِعًا، وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ الِارْتِفَاعُ، وَمِنْهُ الْمِنْبَرُ؛ لِارْتِفَاعِهِ، وَارْتِفَاع الْخَطِيبِ عَلَيْهِ... قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَمَانَةَ تَزُولُ عَنِ الْقُلُوبِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا زَالَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْهَا، زال نُورُهَا وَخَلَفَتْهُ ظُلْمَةٌ كَالْوَكْتِ، وَهُوَ اعْتِرَاضُ لَوْنٍ مُخَالِفٍ لِلَّوْنِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِذَا زَالَ شَيْءٌ آخَرُ، صَارَ كَالْمَجْلِ، وَهُوَ أَثَرٌ مُحْكَمٌ لَا يَكَادُ يَزُولُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ، وَهَذِهِ الظُّلْمَةُ فَوْقَ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ شَبَّهَ زَوَالَ ذَلِكَ النُّورِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي الْقَلْبِ وَخُرُوجِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ فِيهِ وَاعْتِقَابِ الظُّلْمَةِ إِيَّاهُ بِجَمْرٍ يُدَحْرِجُهُ عَلَى رِجْلِهِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهَا ثُمَّ يَزُولُ الْجَمْرُ وَيَبْقَى التَّنَفُّطُ وَأَخْذِهِ الْحَصَاةَ وَدَحْرَجَتِهِ إِيَّاهَا، أَرَادَ بِهَا زِيَادَةَ الْبَيَانِ وَإِيضَاحَ الْمَذْكُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

أسباب رفع الأمانة في آخر الزمان:

هناك عدة أسباب لرفع الأمانة في آخر الزمان، منها:

 ضعف الإيمان: عندما يضعف الإيمان في قلوب الناس، يقلُّ اهتمامهم بالأخلاق والقيم، ومن بينها الأمانة.

انتشار الفتن: الفتن والمغريات التي تظهر في آخر الزمان، تَصرِف الناس عن الحقِّ، وتجعلهم يلهثون وراء الدنيا، وينسَون الآخرة.

سيطرة الشهوات: عندما تسيطر الشهوات على قلوب الناس، يُصبحون غيرَ قادرين على التحكُّم في أنفسهم، ويقدِّمون مصلحتهم الشخصية على كل شيء، حتى على الأمانة.

غياب الرقابة: عندما يغيب الرقيب، سواء كان داخليًّا (الضمير)، أو خارجيًّا (المجتمع)، يصبح الناس أكثرَ جرأةً على التخلِّي عن الأمانة.

مظاهر رفع الأمانة في آخر الزمان

هناك عدَّة مظاهرَ لرفع الأمانة في آخر الزمان، منها:

• الكذب: وهو من أكثر مظاهر رفع الأمانة انتشارًا في آخر الزمان، حيث يكذب الناس في أقوالهم وأفعالهم، ولا يَصدُقون في وعودهم.

• الخيانة: وهي من أشدِّ أنواع رفع الأمانة، حيث يخوِّن الناس بعضهم بعضًا، ولا يحافظون على الأمانات والودائع.

• الغِشُّ: وهو من مظاهر رفع الأمانة في المعاملات التجارية، حيث يغشُّ الناس في البيع والشراء، ولا يَصدُقون في وصف السلع.

آثار رفع الأمانة في آخر الزمان:

رفع الأمانة في آخر الزمان يؤدِّي إلى آثار سلبية على الفرد والمجتمع، منها:

o فقدان الثقة: عندما يفقد الناس الثقة في بعضهم البعض، يتفكَّك المجتمع، وتنتشر الفوضى.

o الظُّلم: عندما يغيب العدل، وينتشر الظلم، يصبح الناس غيرَ آمنين على حقوقهم.

o الفقر: عندما يغيب التعاون، وينتشر الفساد، يصبح المجتمع فقيرًا، ويُعاني المشكلات الاقتصادية.

o الشقاء: عندما يفقد الناس الأمل، وينتشر اليأس، يصبح المجتمع تعيسًا، ويعاني من المشكلات النفسية.

كيفية مواجهة رفع الأمانة في آخر الزمان:

لمواجهة رفع الأمانة في آخر الزمان؛ يجب:

 تقوية الإيمان: يجب علينا أن نَزيد من إيماننا بالله، وأن نتمسَّك بتعاليم الإسلام، التي تحثُّ على الأمانة، وتوعد الكاذبين والخائنين بالعذاب الشديد.

 الاستعداد للفتن: يجب علينا أن نكون حذرين من الفتن والمغريات التي تظهر في آخر الزمان، وأن نبتعد عنها، وأن نلجأ إلى الله تعالى؛ لكي يُعيننا على مواجهتها.

 مجاهدة الشهوات: يجب علينا أن نجاهد شهواتنا، وأن نتحكم في أنفسنا، وأن نقدِّم طاعة الله على كل شيء.

 مراقبة النفس: يجب علينا أن نراقب أنفسنا، وأن نحاسبها على أفعالها، وأن نتوب إلى الله تعالى عن كل ذنب نرتكبه.

 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يجب علينا أن نأمر بالمعروف، وأن ننهى عن المنكر، وأن ننصح الناس، وأن نذكِّرهم بأهمية الأمانة.


للاستزادة


  1. فتح الباري لابن حجر (13/ 39).
  2. شرح مسلم (2/ 168).

اخترنا لكم


الأمانة النبي ﷺ يعلمنا صورًا من الأمانة
النبي ﷺ يعلمنا صورًا من الأمانة

الأمانة لغة: الوفاء، والأمانة ضد الخيانة. والأمانة في الشرع لها معنيان: معنى عامٌّ وآخر خاصٌّ.والواجب في الأمانات العامة والخاصة أن تُحفَظ وتؤدَّى على (...)

الأمانة النبي ﷺ يعلمنا خلق الأمانة
النبي ﷺ يعلمنا خلق الأمانة

قال الله تعالى: ﴿{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً (...)

الأمانة النبي ﷺ يعلمنا جزاء الأمانة
النبي ﷺ يعلمنا جزاء الأمانة

إن المسلم مأمور بأداء الأمانة والتَّحَلِّي بالأخلاق الحسنة والصفات الحميدة؛ فمَنْ عمل بذلك جُوزي بالجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة، ومن ترك الخيانة وال (...)

الأمانة النبي ﷺ يعلمنا أن المسؤولية أمانة
النبي ﷺ يعلمنا أن المسؤولية أمانة

حضَّ النبي ﷺ على اضطلاع كل شخص بمسؤوليته دون تقصير، فإنه مكلَّف بمسؤوليته، والقيام بها على خير وجه هو أمانة، وكلُّ إنسان مسؤولٌ عن شيء يُعتبَر أمانةً (...)