نشأ النبيُّ ﷺ مجبولًا على الأخلاق الحميدة في أصل خِلْقَتِه، وَأَوَّلِ فِطْرَتِهِ، بِجُودٍ إلَهِيٍّ، وخُصُوصِيَّهٍ رَبَّانِيَّةٍ، فقد حبا الله تعالى نبيَّه ﷺ بأخلاقه التي مدحه الله تعالى بها فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، فكان من صفاته ﷺ التي نشأ عليها قبل أن يوحى إليه أنه كان وَصُولًا للرَّحِمِ، عَطُوفًا عَلَى الفُقَرَاءِ وذَوِي الحَاجَةِ، ويَقْرِي الضَّيْفَ، ويُعِينُ الضَّعِيفَ، ويَمْسَحُ بِيَدَيْهِ بُؤْسَ البَائِسِينَ، ويُفَرِّجُ كَرْبَ المَكْرُوبِينَ.
الاستدلال بحُسن خُلقه:
في بَدْء الوحي عندما خاف النبيُّ ﷺ على نفسه، استدلَّت زوجته أُمُّ المُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأخلاقه على أن ذلك خير؛ فقالت: "كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ" رواه البخاريُّ ومسلم.
لقد كانت حيَاة النَّبِيِّ ﷺ أمثلَ حياة وأكرمَها، وأحفَلَها بمعاني الإنسانية، والشَّرَف، والكرامة، وعَظَمة النفس، ثم نبَّأه الله وبعثه، فنَمَت هذه الفضائل وترعرعت، وما زالت تسمو فروعها، وتَرسُخ أصولها، وتتَّسِع أفياؤها حتى أضحت فريدةً في تاريخ الإنسان في هذه الدنيا.
إن هذه الحياة الفاضلة الْمُثلى لَمِن أكبر الدلائل على ثبوت نبوَّته ﷺ، فما سمعنا في تاريخ الدنيا قديمها وحديثها، أن حياة كلَّها فَضْل وكمال، وهدى ونور، وحقٌّ وخير، كحياة نبيِّنا محمد ﷺ، ولم يُعهَد في تاريخ البشر أن شخصًا يسمو على كلِّ مجتمَعه وهو يعيش فيه، وينشأ مبرَّأً من كلِّ نقائصه ومَثالبه، وهو نابع منه، ولا أن نورًا ينبعث من وسط ظُلمات، ولا طهارةً تَنبَع من وسط أدناس وأرجاس، ولا أن عِلْمًا يكون من بين جهالات وخُرافات، اللهمَّ إلَّا إذا كان ذلك لحِكمة، وأمرًا جرى على غير المعهود والمألوف، وما ذلك إلا لإعداد النبيِّ للنبوَّة" .
أمانة النبيِّ ﷺ:
كَانَ النبيُّ ﷺ مَعْرُوفًا بالأَمَانَةِ، وكان مَحَلَّ ثِقَةِ النَّاسِ وأمَانَاتِهِمْ، لا يَأْتَمِنُهُ أَحَدٌ عَلَى وَدِيعَةٍ مِنَ الوَدَائِعِ إِلَّا أدَّاهَا لَهُ، ولا يَأْتَمِنُهُ أَحَدٌ عَلَى سِرٍّ أَوْ كَلامٍ إِلَّا وَجَدَهُ عِنْدَ حُسْنِ الظَّنِّ بهِ، حتى إن قُريشًا أطلقت عليه قَبْلَ النُّبُوَّةِ (الأمِين).
صدق النبيِّ ﷺ:
كَانَ النبيُّ ﷺ مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ، وَكَانَ الصِّدْقُ مِنْ صِفَاتِهِ ﷺ البَارِزَةِ، شَهِدَ لهُ بِذَلِكَ العَدُوُّ والصَّدِيقُ، ولمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلى النَّاسِ جَمِيعًا، وأمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الأقْرَبِينَ، صارَ يُنَادِي بُطُونَ قُرَيْشٍ، وأقرُّوا بصدقه قبل أن يُخبرهم برسالته.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]، صَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ» - لِبُطُونِ قُرَيْشٍ - حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ، أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! فَنَزَلَتْ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ [المسد: 1، 2] رواه البخاريُّ ومسلم.
ولمَّا قَالَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ لِأَبِي سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ -وَكَانَ لَمْ يَزَلْ مُشْرِكًا-: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا، فقَالَ هِرَقْلُ: فَقَدْ عَرَفْتُ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، ويَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. رواه البخاريُّ ومسلم.