دعاء النبي ﷺ على مَشْيخة قريش

كان النبيُّ يصفح عن إيذاء كفار قريش ويتجاوز عنهم في بداية الدعوة؛ عملًا بأمر الله تعالى له: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر: 85]، وقوله: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ [المزمل: 10]، فلما اشتدَّ إيذاؤهم، بدأ بالدعاء عليهم وتهديدهم بما سيكون في المستقبل من القتال.

قال القرطبيُّ في تفسيره (10/ 54): " ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر: 85] مثل: ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ [المزمل: 10]؛ أي: تجاوز عنهم يا محمد، واعفُ عَفْوًا حَسَنًا، ثُمَّ نُسِخَ بِالسَّيْفِ. قَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَهُ قَوْلُهُ: ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾ [النساء: 91]، وَأَنَّ النبيَّ ﷺ قال لَهُمْ: ((لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ))، ((وَبُعِثْتُ بِالْحَصادِ، وَلَمْ أُبْعَثْ بِالزِّرَاعَةِ))، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: لَيْسَ بمنسوخ، وأنه أُمر بالصفح في نَفْسِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ".

ما لَقِيَ النبيُّ ﷺ من قومه:

لقد اشتدَّ أمر قريش؛ للشقاء الذى أصابهم فى عداوة رسول الله ﷺ، ومن أسلم معه منهم، فأغرَوا برسول الله ﷺ سفهاءهم، فكذَّبوه وآذوه، ورمَوه بالشِّعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله ﷺ مظهر لأمر الله، لا يستخفي به، مُبادلهم بما يكرهون من عَيب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم على كفرهم.

ومن صور ذلك أن الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ، فَتَعَاقَدُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى، وَنَائِلَةَ وَإِسَافٍ: لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّدًا، لَقُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ. فَأَقْبَلَتِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ تَبْكِي حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى النبيِّ ﷺ فَقَالَتْ: هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِكَ قَدْ تَعَاقَدُوا عَلَيْكَ، لَوْ قَدْ رَأَوْكَ لَقَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دِيَتِكَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، ائْتِنِي بِوَضُوئِي، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَا هُوَ ذَا، وَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ وَسَقَطَتْ أَذْقَانُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، وَعُقِروا فِي مَجَالِسِهِمْ، وَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى قَامَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ»، ثُمَّ حَصَبَهُمْ، فَمَا أَصَابَ رَجُلًا مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْحَصَى حَصَاةٌ إِلَّا قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ. رواه أحمد والحاكم وأبو نعيم في دلائل النبوة.

وسأل عُرْوَةُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: مَا أَكْثَرُ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ، فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ؟ قَالَ: حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ، سَفَّهَ أَحْلاَمَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ.

فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَأَقْبَلَ يَمْشِي، حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ مَا يَقُولُ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ، غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ مَرَّ بِهِمُ الثَّالِثَةَ، فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا.

فَقَالَ: تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ.

فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ، حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، انْصَرِفْ رَاشِدًا، فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ جَهُولًا.

فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ، اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ، حَتَّى إِذَا بَادَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ.

فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ، إِذْ طَلَعَ عليهم رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَحَاطُوا بِهِ، يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ.

فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: نَعَمْ، أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ.

فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دُونَهُ، يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}؟

ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لأَشَدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ. رواه أحمد وأبو نعيم في دلائل النبوة.

دعاء النبيِّ ﷺ على مَشْيخة قريش:

روى البخاريُّ ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: "بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟

فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ، وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ.

فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ، طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالنَّبِيُّ ﷺ سَاجِدٌ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ.

حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ إِلَى فَاطِمَةَ، فَجَاءَتْ، وَهِيَ جُوَيْرِيَّةٌ، فَطَرَحَتْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ.

فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ ﷺ صَلَاتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ، ذَهَبَ عَنْهُمُ الضَّحِكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَذَكَرَ السَّابِعَ لَمْ أَحْفَظْهُ.

فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِي سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ".

للاستزادة


  1. السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة (1/ 298).
  2. دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (ص: 208).

اخترنا لكم


دلائل النبوة إتيان جبريل إلى النبي ﷺ على صورته
إتيان جبريل إلى النبي ﷺ على صورته

لقد تعدَّدت أنواع الوحي، إلا أن معظم الوحي كان من خلال أمين الوحي جبريلَ – عليه السلام – ولكنه كان يأتي للنبيِّ ﷺ في صور متعدِّدة، ولم يره النبيُّ ﷺ ع (...)

دلائل النبوة فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ
فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ

فَرض الله تعالى الصلاة في السماء ليلة الإسراء والمعراج، وهي الفريضة الوحيدة التي فرضها الله تعالى في السماء مباشرة للنبيِّ (...)

دلائل النبوة ما رآه النبي ﷺ في الجنة
ما رآه النبي ﷺ في الجنة

لقد شاهد النبيُّ ﷺ في رحلة الإسراء والمعراج المباركة من آيات الله الكبرى، ومن ذلك أنه ﷺ أُدخِل الجنَّة، وسنذكر (...)

دلائل النبوة النبي ﷺ عند سدرة المنتهى
النبي ﷺ عند سدرة المنتهى

لقد رأى النبيُّ ﷺ في رحلة الإسراء والمعراج من آيات ربِّه الكبرى، ومنها أنه صعد إلى سدرة المنتهى؛ قال تعالى: (...)