عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً

إن النبيَّ ﷺ اسمه محمد، قد اشتمل مُسَمَّاهُ على الْحَمد؛ "فَإِنَّهُ ﷺ مَحْمُود عِنْد الله، ومحمود عِنْد مَلَائكَته، ومحمود عِنْد إخوانه من الْمُرْسلين، ومحمود عِنْد أهل الأَرْض كلهم وَإِن كفر بِهِ بَعضهم، فَإِن مَا فِيهِ من صِفَات الْكَمَال محمودة عِنْد كلِّ عَاقل، وَإِن كَابر عقله جحُودًا أَو عناداً أَو جهلًا باتِّصافه بهَا، وَلَو علم اتصافه بهَا لحمده، فَإِنَّهُ يحمد من اتّصف بِصِفَات الْكَمَال ويجهل وجودهَا، فِيهِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة حَامِد لَهُ، وَهُوَ ﷺ اخْتصَّ من مُسَمّى الْحَمد بِمَا لم يجْتَمع لغيره؛ فَإِن اسْمه مُحَمَّد وَأحمد، وَأمَّته الْحَمَّادُونَ، يحْمَدُونَ الله على السَّرَّاء وَالضَّرَّاء، وَصَلَاة أمَّته مفتتحة بِالْحَمْد، وخطبته مفتتحة بِالْحَمْد، وَكتابه مفتتح بِالْحَمْد، هَكَذَا عِنْد الله فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ أَن خلفاءه وَأَصْحَابه يَكْتُبُونَ الْمُصحف مفتتحًا بِالْحَمْد... وَهُوَ مَحْمُود ﷺ بِمَا مَلأ الأَرْض من الْهدى وَالْإِيمَان وَالْعلم النافع وَالْعَمَل الصَّالح وَفتح بِهِ الْقُلُوب وكشف بِهِ الظلمَة عَن أهل الأَرْض واستنقذهم من أسر الشَّيْطَان وَمن الشّرك بِاللَّه وَالْكفْر بِهِ وَالْجهل بِهِ حَتَّى نَالَ بِهِ أَتْبَاعه شرف الدُّنْيَا وَالْآخِرَة" .

المقام المحمود للنبيِّ ﷺ:

إن النبيَّ ﷺ بِيَدِهِ لِوَاء الْحَمد يَوْم الْقِيَامَة، وَلَمَّا يسْجد بَين يَدي ربه - عز وَجل - للشفاعة وَيُؤذن لَهُ فِيهَا يحمد ربه بِمَحَامِد يفتحها عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَهُوَ صَاحب الْمقَام الْمَحْمُود الَّذِي يغبطه بِهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ؛ قَالَ تَعَالَى ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً﴾ [الْإِسْرَاء: 79]، َقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "هَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ" .

إِذا قَامَ النبيُّ ﷺ فِي الْمقَام، حَمِده حِينَئِذٍ أهل الْموقف كلُّهم، مسلمُهم وكافرهم، أَوَّلهمْ وَآخرهمْ.

قال ابن كثير في تفسيره (5/ 103): "وَقَوْلُهُ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}؛ أَيِ: افْعَلْ هَذَا الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ؛ لِنُقِيمَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَقَامًا يَحْسُدُكَ فِيهِ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: ذَلِكَ هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي يَقُومُهُ ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلشَّفَاعَةِ لِلنَّاسِ؛ لِيُرِيحَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ عَظِيمِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ".

الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ:

الأحاديث الواردة كثيرة، نذكر منها:

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ)) رواه البخاريُّ.

وعن ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: "إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلاَنُ اشْفَعْ، يَا فُلاَنُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ المَقَامَ المَحْمُودَ " رواه البخاريُّ، و(جُثًا): جماعات، واحدها جثوة. (تنتهي): تصل ويطلب أهل الموقف الشفاعة منه.

وعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ: "يُحْبَسُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، لِتَشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، قَالَ: فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، قَالَ: وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ؛ أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ؛ سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، قَالَ: فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ ثَلاَثَ كَلِمَاتٍ كَذَبَهُنَّ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى؛ عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ، وَكَلَّمَهُ، وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا، قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ؛ قَتْلَهُ النَّفْسَ؛ وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، قَالَ: فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ؛ وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا ﷺ، عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِه - أي: في جنته - فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، فَيَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ - قَالَ قَتَادَةُ: وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا يَقُولُ: فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ - ثُمَّ أَعُودُ الثَّانِيَةَ: فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِه - أي: في جنته - فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، قَالَ: ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ - قَالَ قَتَادَةُ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ - ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ: فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِه - أي: في جنته - فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، قَالَ: ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ - قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ - حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ"؛ أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الخُلُودُ، قَالَ: ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79] قَالَ: "وَهَذَا المَقَامُ المَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ ﷺ" رواه البخاريُّ.


للاستزادة


  1. جلاء الأفهام لابن القيم (ص: 178).
  2. تفسير ابن كثير (5/ 104).

اخترنا لكم


دلائل النبوة حراسة السماء من استراق السمع لثبوت بعثه ﷺ
حراسة السماء من استراق السمع لثبوت بعثه ﷺ

لقد مهَّد الله تعالى لبعثة نبيِّه ﷺ بإرهاصات وعلامات منذ ولادته، ولَمَّا كان قُبيل بعثته ﷺ ترادفت عليه علامات نبوَّته وتكاثرت، وحدَّث بها الكهَّان بم (...)

دلائل النبوة ردُّ كيد أبي جهل عن النبي ﷺ
ردُّ كيد أبي جهل عن النبي ﷺ

لَمَّا صدع النبيُّ ﷺ بأمر الله تعالى، ودعا أهل مكة إلى التوحيد وترْك عبادة الأصنام، لَقِي من قريش جحودًا وشدَّة، وإعراضًا وإيذاءً، وكان أبو جهل من أوا (...)

دلائل النبوة معجزة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ
معجزة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ

إن رحلة الإسراء والمعراج من أشهر المعجزات، وأظهر البراهين البيِّنات، وأقوى الحُجَج الْمُحْكَمات، وأصدق الأنباء، وأعظم الآيات، وأتمِّ الدلالات الدالَّة (...)

دلائل النبوة الحكمة من فرض الصلوات الخمس على النبي ﷺ في السماء
الحكمة من فرض الصلوات الخمس على النبي ﷺ في السماء

فرض الله تعالى الصلواتِ ليلةَ الإسراء والمعراج في السماء خمسين صلاةً في اليوم والليلة، ثم خفَّفها إلى خمس صلوات في (...)