كلام النبي ﷺ مع أبي جهل، وما رآه من العبر والآيات

لقد أظهر أبو جهل العداوة والبغضاء للنبيِّ ﷺ، رغم شهادته للنبي ﷺ بالصدق والأمانة، وقد قال الله عنه وعن أمثاله من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم ممن كذَّبوا رسول الله ﷺ، ولم يؤمنوا به، وهم يعلمون صدقه ونبوته: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: 33].

قال ابن كثير في تفسيره (3/ 250، 251): "وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ ؛ أَيْ: لَا يَتَّهِمُونَكَ بِالْكَذِبِ في نَفْسِ الْأَمْرِ؛ ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ ؛ أَيْ: وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَ الْحَقَّ وَيَدْفَعُونَهُ بِصُدُورِهِمْ، كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ؛ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}".

تكنية ﷺ النبيِّ لأبي جهل:

أبو جهل كُنْية لعدوِّ الله عمرِو بنِ هشام، كنَّاه بها النبيُّ ﷺ بعد أن كان يُكنى بأبي الحَكَم؛ وذلك لشدَّة عداوته وإيذائه للنبيِّ ﷺ والمسلمين.

قال ابن القيم في زاد المعاد (2/ 309): "وكذلك تَكْنِيته ﷺ لأبي الحكم بن هشام بأبي جهل، كنية مطابقة لوصفه ومعناه، وهو أحقُّ الخَلْق بهذه الكُنية".

حقد وحسد أبي جهل للنبيِّ ﷺ:

لقد أظهر أبو جهل العداء الشديد للنبيِّ ﷺ، وللإسلام، مع أنه كان يعلم ويُقِرُّ بصدق النبيِّ ﷺ.

قال القرطبيُّ في تفسيره (16/ 170)، عند تفسير قول الله تعالى: ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ [الجاثـية: 23]: "وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ ذَاتَ ليلة ومعه الوليد بن الْمُغِيرَةِ، فَتَحَدَّثَا فِي شَأْنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِنَّهُ لَصَادِقٌ. فَقَالَ لَهُ: مَهْ! وَمَا دَلَّكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، كُنَّا نُسَمِّيهِ فِي صِبَاهُ الصَّادِقَ الْأَمِينَ، فَلَمَّا تَمَّ عَقْلُهُ وَكَمُلَ رُشْدُهُ، نُسَمِّيهِ الْكَذَّابَ الْخَائِنَ!! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِنَّهُ لَصَادِقٌ. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَدِّقَهُ وَتُؤْمِنَ بِهِ؟ قَالَ: تَتَحَدَّثُ عَنِّي بَنَاتُ قُرَيْشٍ أَنِّي قَدِ اتَّبَعْتُ يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَجْلِ كِسْرَةٍ، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِنِ اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا. فَنَزَلَتْ: {وَخَتَمَ عَلَى سمعه وقلبه}".

وقال ابن القيم في هداية الحيارى (1/ 246): "وَقَدْ قَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ - وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ أَبِي جَهْلٍ - يَا خَالُ، هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَ مُحَمَّدًا قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أُخْتِي، وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِينَا صَادِقًا وَهُوَ شَابٌّ، يُدْعَى الْأَمِينَ، فَمَا جَرَّبْنَا عَلَيْهِ كَذِبًا قَطُّ، قَالَ: يَا خَالُ، فَمَا لَكُمْ لَا تَتْبَعُونَهُ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أُخْتِي، تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو هَاشِمٍ الشَّرَفَ، فَأَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا، وَسَقَوْا وَسَقَيْنَا، وَأَجَارُوا وَأَجَرْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ، فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ؟!

أبو جهل فرعون هذه الأمة:

لقد كان أبو جهل شديدَ العداوة والإيذاء للنبيِّ ﷺ وأصحابه، وكم لاقى المسلمون من إيذائه واستهزائه، وظل مستكبرًا حتى آخر لحظات حياته، حتى إن النبيَّ سماه "فرعون هذه الأمة"، كما روى أحمد والنسائيُّ عن ابْنِ مَسْعُودٍ – رضي الله عنه - قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقُلْتُ: قَتَلْتُ أَبَا جَهْلٍ، قَالَ: ((آللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ؟))، قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، فَرَدَّدَهَا ثَلاَثًا، قَالَ: ((اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، انْطَلِقْ فَأَرِنِيهِ))، فَانْطَلَقْنَا، فَإِذَا بِهِ، فَقَالَ: ((هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ)).

لقد شاء الله تعالى أن يكون مقتله في غزوة بدر على يد غُلامين صغيرين: معاذ بن الجموح ومعاذ بن عفراءَ، وأحد ضعفاء المسلمين (عبد الله بن مسعود)، الذي كان نحيلَ البدن، قصير القامة، وقد دُفِن أبو جهل في قليب بدر بعد أن تعفَّنت جُثَّته وجُثَث أقرانه من طغاة قريش، الذين دعا عليهم النبيُّ ﷺ قبل المعركة بأسمائهم.

تَهَكُّمُ أَبِي جَهْلٍ بِالرَّسُولِ ﷺ وَتَنْفِيرُ النَّاسِ عَنْهُ:

قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمًا وَهُوَ يَهْزَأُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّمَا جُنُودُ اللَّهِ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَكُمْ فِي النَّارِ وَيَحْبِسُونَكُمْ فِيهَا تِسْعَةَ عَشَرَ، وَأَنْتُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ عَدَدًا، وَكَثْرَةً، أَفَيَعْجِزُ كُلُّ ماِئَةِ رَجُلٍ مِنْكُمْ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [المدثر: 31] إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ، جَعَلُوا إذَا جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي، يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ، وَيَأْبَوْنَ أَنْ يَسْتَمِعُوا لَهُ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْضَ مَا يَتْلُو مِنْ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي، اسْتَرَقَ السَّمْعَ دُونَهُمْ فَرَقًا مِنْهُمْ، فَإِنْ رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمِعُ مِنْهُ، ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ فَلَمْ يَسْتَمِعْ، وَإِنْ خَفَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَوْتَهُ، فَظَنَّ الَّذِي يَسْتَمِعُ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَمِعُونَ شَيْئًا مِنْ قِرَاءَتِهِ، وَسَمِعَ هُوَ شَيْئًا دُونَهُمْ، أَصَاخَ لَهُ يَسْتَمِعُ مِنْهُ.

علم أبي جهل بصدق النبيِّ ﷺ:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ حُدِّثَ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ، حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ، خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمِعُ فِيهِ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا.

فَجَمَعَهُمْ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: لَا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا. حَتَّى إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ، عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا. حَتَّى إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعَاهَدَ أَلَا نَعُودَ: فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا.

فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاَللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا، وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا، قَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا الَّذِي حَلَفْتَ بِهِ كَذَلِكَ.

ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟

فَقَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ، تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إذَا تَجَاذَيْنَا عَلَى الرَّكْبِ، وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ، وَاَللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ. فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ.

ذُلُّ أَبِي جَهْلٍ لِلرَّسُولِ ﷺ:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ مَعَ عَدَاوَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبُغْضِهِ إيَّاهُ، وَشِدَّتِهِ عَلَيْهِ، يُذِلُّهُ اللَّهُ لَهُ إذَا رَآهُ.

ومن أمثلة ذلك أنه قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إرَاشَةَ - بطن من خثعم - بِإِبِلِ لَهُ مَكَّةَ، فَابْتَاعَهَا مِنْهُ أَبُو جَهْلٍ، فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا. فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ جَالِسٌ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَنْ رَجُلٌ يُؤَدِّينِي – أي: يُعِيننِي على أَخذ حَقي - عَلَى أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، فَإِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ، ابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقِّي؟

فَقَالَ لَهُ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ: أَتَرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ الْجَالِسَ - لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُمْ يَهْزَؤونَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ الْعَدَاوَةِ- اذْهَبْ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّيكَ عَلَيْهِ.

فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا الْحَكَمِ بْنَ هِشَامٍ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقٍّ لِي قِبَلَهُ، وَأَنَا رَجُلٌ غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ سَأَلْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَنْ رَجُلٍ يُؤَدِّينِي عَلَيْهِ، يَأْخُذُ لِي حَقِّي مِنْهُ، فَأَشَارُوا لِي إلَيْكَ، فَخُذْ لِي حَقِّي مِنْهُ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ.

قَالَ: انْطَلِقْ إلَيْهِ، وَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ مَعَهُ، قَالُوا لِرَجُلِ مِمَّنْ مَعَهُمْ: اتْبَعْهُ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ.

وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى جَاءَهُ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ.

فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟

قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَاخْرُجْ إلَيَّ.

فَخَرَجَ إلَيْهِ، وَمَا فِي وَجْهِهِ مِنْ رَائِحَةٍ، قَدْ انْتُقِعَ لَوْنُهُ.

فَقَالَ: أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقَّهُ.

قَالَ: نَعَمْ، لَا تَبْرَحْ حَتَّى أُعْطِيَهُ الَّذِي لَهُ.

فَدَخَلَ، فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقِّهِ، فَدَفَعَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَقَالَ لِلْإِرَاشِيِّ: الْحَقْ بِشَأْنِكَ، فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَاَللَّهِ أَخَذَ لِي حَقِّي.

وَجَاءَ الرَّجُلُ الَّذِي بَعَثُوا مَعَهُ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ! مَاذَا رَأَيْت؟

قَالَ: عَجَبًا مِنْ الْعَجَبِ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ إلَيْهِ وَمَا مَعَهُ رُوحُهُ فَقَالَ لَهُ: أَعْطِ هَذَا حَقَّهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، لَا تَبْرَحْ حَتَّى أُخْرِجَ إلَيْهِ حَقَّهُ، فَدَخَلَ فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقِّهِ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ.

ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَبُو جَهْلٍ أَنْ جَاءَ، فَقَالُوا لَهُ: وَيْلَكَ! مَا لَكَ؟ وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَنَعْتُ قَطُّ!

قَالَ: وَيْحَكُمْ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيَّ بَابِي، وَسَمِعْتُ صَوْتَهُ، فَمُلِئَتْ رُعْبًا، ثُمَّ خَرَجْتُ إلَيْهِ، وَإِنَّ فَوْقَ رَأْسِهِ لَفَحْلًا مِنْ الْإِبِلِ، مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتِهِ، وَلَا قَصَرَتِهِ، وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، وَاَللَّهِ لَوْ أَبَيْتُ لَأَكَلَنِي.

مُحَاوَلَةُ أَبِي جَهْلٍ الرَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ:

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ بِمَكَّةَ، عِشْرُونَ رَجُلًا أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ النَّصَارَى، حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ مِنْ الْحَبَشَةِ، فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسُوا إلَيْهِ وَكَلَّمُوهُ وَسَأَلُوهُ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَمَّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَتَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ، فَاضَتْ أَعَيْنُهُمْ مِنْ الدَّمْعِ، ثُمَّ اسْتَجَابُوا للَّه، وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ.

فَلَمَّا قَامُوا عَنْهُ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلِ بْن هِشَامٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ.

فَقَالُوا لَهُمْ: خَيَّبَكُمْ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ! بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ لِتَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ، حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ.

فَقَالُوا لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لَا نُجَاهِلُكُمْ، لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَلَكُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، لَمْ نَأْلُ أَنْفُسَنَا خَيْرًا.

للاستزادة


  1. تفسير ابن كثير (3/ 250).
  2. سيرة ابن هشام ت السقا (1/ 313).

اخترنا لكم


دلائل النبوة طِيب مولده ﷺ وحَسَبه ونَسَبه
طِيب مولده ﷺ وحَسَبه ونَسَبه

وُلِد الرسول ﷺ في شهر ربيعٍ الأول، يوم الاثنين بلا خلاف، والأكثرون على أنه ليلةَ الثانيَ عشَرَ من ربيعٍ الأول .وقال خليفة بن خياط: "والْمُجمَع عليه (...)

دلائل النبوة الإسراء والمعراج بجسد النبي ﷺ وروحه
الإسراء والمعراج بجسد النبي ﷺ وروحه

كانت رحلة الإسراء والمعراج في اليقظة بجسد النبيِّ ﷺ ورُوحه، لذا؛ كانت معجزةً وكرامة للنبيِّ ﷺ، وإلا لو كانت مَنامًا (...)

دلائل النبوة حراسة السماء من استراق السمع لثبوت بعثه ﷺ
حراسة السماء من استراق السمع لثبوت بعثه ﷺ

لقد مهَّد الله تعالى لبعثة نبيِّه ﷺ بإرهاصات وعلامات منذ ولادته، ولَمَّا كان قُبيل بعثته ﷺ ترادفت عليه علامات نبوَّته وتكاثرت، وحدَّث بها الكهَّان بم (...)

دلائل النبوة فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ
فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ

فَرض الله تعالى الصلاة في السماء ليلة الإسراء والمعراج، وهي الفريضة الوحيدة التي فرضها الله تعالى في السماء مباشرة للنبيِّ (...)