أُسريَ بالنبيِّ ﷺ إلى بيت المقدس ليَعرُج إلى السماء من المسجد الأقصى، ولم يُعرَج به من المسجد الحرام إلى السماء مباشرة، وقد صلى إمامًا بالأنبياء في المسجد الأقصى، فما الحكمة في الإسراء به ﷺ إلى المسجد الأقصى؛ ليصعد إلى السموات العلى؟
صَلَاةُ النبيِّ ﷺ بِالأَنْبِيَاء عَلَيْهِمُ السَّلَامُ:
وَصَلَ النبيُّ ﷺ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى، وَمَعَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ- على البُراق، فَوَجَدَ الأَنْبِيَاءَ قَدْ جُمِعُوا لَهُ، فَقَدَّمَ جِبْرُيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الرَّسُولَ ﷺ، وَصَلَّى بِالأَنْبِيَاءِ إِمَامًا.
أخرج مسلم (172) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ".
وَأخرج أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ (2324) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: "فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ المَسْجِدَ الأَقْصَى قَامَ يُصَلِّي، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّونَ أَجْمَعُونَ يُصَلُّونَ مَعَهُ".
مَتَى صَلَّى النبيُّ ﷺ بِالأَنْبِيَاءِ؟
هناك خلاف بين العلماء: هل صلاة النبيِّ ﷺ بالأنبياء إمامًا في المسجد الأقصى كانت قبل عروجه إلى السموات العلى أم بعد أن هبط منها؟ والراجح أنه كان قبل العروج.
قَالَ ابن حجر في فتح الباري (7/ 209): "وَالْأَظْهَرُ أَنَّ صَلَاتَهُ بِهِمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ قَبْلَ الْعُرُوجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
بَيْنَمَا يَرَى الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ أَنَّ صَلَاتَهُ ﷺ بِالأَنْبِيَاء - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ - كَانَتْ بَعْدَ العُرُوجِ إلى السَّمَاوَاتِ، قَالَ في تفسيره (5/ 31): "وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ﷺ إِنَّمَا اجْتَمَعَ بِهِمْ فِي السَّمَوَاتِ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثَانِيًا وَهُمْ مَعَهُ، وَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ رَكِبَ الْبُرَاقَ وَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
وَقَالَ فِي البداية والنهاية (3/ 139): "ثُمَّ هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ هَبَطُوا مَعَهُ؛ تَكْرِيمًا لَهُ وَتَعْظِيمًا عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، كَمَا هِيَ عَادَةُ الْوَافِدِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ بِأَحَدٍ قَبْلَ الَّذِي طُلِبُوا إِلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ كُلَّمَا مرَّ على واحد منهم يقول له جبريل - عندما يتقدَّم ذَاكَ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ - هَذَا فُلَانٌ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ بِهِمْ قَبْلَ صُعُودِهِ، لَمَا احْتَاجَ إِلَى تَعَرُّفٍ بِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً. وممَّا يدلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: ((فَلَمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ أَمَمْتُهُمْ))، وَلَمْ يَحِنْ وَقْتٌ إِذْ ذَاكَ إِلَّا صَلَاةُ الْفَجْرِ، فَتَقَدَّمَهُمْ إِمَامًا بِهِمْ عَنْ أَمْرِ جِبْرِيلَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ – عزَّ وجلَّ - فَاسْتَفَادَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ يُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ حَيْثُ كَانَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مَحَلَّتَهُمْ وَدَارَ إِقَامَتِهِمْ".
الحكمة من عروج النبيِّ ﷺ من المسجد الأقصى:
أُسريَ بالنبيِّ ﷺ إلى بيت المقدس ليَعرُج إلى السماء من المسجد الأقصى، ولم يُعرَج به من المسجد الحرام إلى السماء مباشرة لِحِكَم؛ لعلَّ منها (فتح الباري لابن حجر (7/ 197)):
- أن النبيَّ ﷺ هو نبيُّ القِبلتين: المسجدِ الحرامِ والمسجد الأقصى، فجمَع الله تعالى له ﷺ في تلك الليلة بين رُؤْية القِبْلتينِ.
- أن بيت المقدس كان هجرةَ غالب الأنبياء قبلَه، فحصَل له الرَّحيل إليه ليجمع بين أشتات الفضائل.
- أنه محَلُّ المَحْشر، وغالب ما اتُّفِق له في تلك الليلة يُناسِب الأحوالَ الأخروية، فكان المِعْراجُ من بيت المقدس ألْيَقَ بذلك.
- ليجتمع بالأنبياء جُملةً؛ فصلاتُه ﷺ بإخوانه الأنبياء ركعتين في المسجد الأقصى إمامًا، إقرارٌ مُبين بأن النبيَّ ﷺ إمام الأنبياء وخاتمهم، وأن رسالته هي الرسالة الخاتمة الْمُهَيْمِنة على سائر الرسالات قبلَه، وأن النبيَّ ﷺ مرسَل لتكملة البناء الذي تعهَّده من سَبقه من الأنبياء – عليهم السلام.
- ليظهر جَليًّا ما بين الأنبياء من وَحْدة عقيدة التوحيد، ورابطة الدين الواحد الذي أرسلهم الله تعالى به، وكذلك بين الأماكن المقدَّسة لديهم جميعًا.
- المسجد الأقصى من أعظم مساجد الإسلام، حتى إنه أحد المساجد الثلاثة التي يُشرَع شَدُّ الرحال إليها في الإسلام.