فُتور الوحي عن النبيِّ ﷺ

فتورُ الوحي عِبارةٌ عَنْ تأخُّرِهِ مُدَّةً منَ الزَّمانِ، فبعد أن نزل جبريلُ – عليه السلام – أوَّلَ مرَّةٍ على النبيِّ ﷺ في غار حِراءٍ، فَتَر الوحيُّ عن رسول الله ﷺ مُدَّةً يسيرة، وكان فتور الوحي هذا شديدًا على النبيِّ ﷺ، إلا أنه كان ليَذهَب ما وَجَدَهُ ﷺ مِنَ الرَّوْعِ والفزع، وليزداد شوقًا إلى عودة الوحي، والاتصال بأمر السماء.

أخرج الإمام أحمد في المسند (15033) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "حُبِسَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَحُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَجَعَلَ يَخْلُو فِي حِرَاءٍ".

مُدَّةُ فُتور الوَحْي:

اختُلف في مُدَّة فُتُورِ الْوَحْي، والراجح أنها كَانَتْ أَيَّامًا، أما ما ذُكر من أنها دامت سنتين ونصفًا، أو ثلاثَ سنوات، فلا يصحُّ بحال، فلا يُعقَل أن تمضيَ هذه المدَّة الطويلة من عُمُرِ الدعوة الإسلامية الناشئة من غير وحي ودعوة، فهذا ما لا تَقبَله العقول، ولا يَدُلُّ عليه نَقْلٌ صحيحٌ.

عودة نُزُولُ الْوَحْي ومجيء جبريلَ للمرة الثانية:

لَمَّا تيقَّن رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُ هُوَ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وأَنَّهُ صار نَبِيًّا للهِ تعالى، صار متشوِّقًا لِمَجِيءِ الْوَحْي، مترقِّبًا له، حتى جَاءَهُ جِبْرِيلُ - عليهِ السَّلامُ - لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَثْنَاءَ فَتْرَةِ الْوَحْي يَذْهَبُ إِلَى غَارِ حِرَاءٍ، فَيَخْلُو فِيهِ، وَبَيْنَا هُوَ نَازِلٌ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَمِعَ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا جِبْرِيلُ - عليهِ السَّلامُ - فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، سَادًّا مَا بَيْنَ الْأُفُقِ، فَرُعِبَ مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَقَالَ ﷺ: "زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي"، فزَمَّلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: ﴿{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }﴾ [المدثر: 1 - 5].

أخرج البخاريُّ (4) ومسلم (161) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّهُ سَمعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْي، قَالَ فِي حَدِيثِهِ ﷺ: "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }﴾ [المدثر: 1 - 5]، فَحَمِيَ الوَحْيُ وَتَتَابَعَ"؛ أي: كَثُر نزوله ومجيئه.

أوَّل آيات نزلت بعد فُتور الوحي:

كَانَتْ أَوَّلُ آيَاتٍ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْي، هي قولَه تعالى: ﴿{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }﴾ [المدثر: 1 - 5]، (المدَّثر): المتلفِّف بثيابه. (والرجز فاهجر)؛ أي: الذنب والمراد به هنا الأوثان، والمعنى: استمرَّ في تركك للأوثان.

و"كانت هذه الأوامر المتتابعة القاطعة إيذانًا للرسول ﷺ بأنّ الماضيَ قد انتهى بِمَنامه وهُدوئه وسَلامه، وأنّه أمام عمل جديد يستدعي اليقظة والتَّشْمير، والإنذار والإعذار، فليَحْمِلِ الرسالةَ، وليوجِّه الناس، وليَأْنَس بالوحيِ، وليَقْوَ على عنائه؛ فإنه مصدر رسالته، ومَدَد دعوته" .

لقد قام رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بالأمر خير قيام، وَظَلَّ قَائِمًا بَعْدَهَا ثلاثةً وعشرين عامًا في عمل دؤوب للدعوة دون سكون أو راحة، يَحْمِلُ عَلَى عَاتِقِهِ عبئًا تنوء به الجبال، إنه عبء إيصال الدعوة للبشرية كلِّها، بشيرًا ونذيرًا، ومواجهة الجاهلية المسيطرة على البشرية حينها بالدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى.

للاستزادة


  1. فتح الباري (1/ 40).
  2. الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 94).

اخترنا لكم


الدعوة السرية إسلام ابن عمه ﷺ علي بن أبي طالب
إسلام ابن عمه ﷺ علي بن أبي طالب

عَلِيُّ بن أَبِي طَالِبٍ بن عبد المطلِّب، ابنُ عَمِّ النبىِ ﷺ، وُلد قبلَ بَعْثَةِ النبيِّ ﷺ بعشْرِ سنينَ على الصَّحيح، فرُبِّيَ في حِجْرِ النبي ﷺ ولم (...)

الدعوة السرية استِخْفَاءُ النَّبيِّ ﷺ والمُسْلِمِينَ في دَارِ الأَرْقَمِ
استِخْفَاءُ النَّبيِّ ﷺ والمُسْلِمِينَ في دَارِ الأَرْقَمِ

كان الأرقم - رضي الله عنه- من السابقين الأولين، وكانت داره منتدى يجتمع فيه المسلمون، ويعبدون الله سرًّا، ويلقِّنهم النبيُّ ﷺ الإسلام وأصوله، ويتعهّدهم (...)

الدعوة السرية إسلام حِبه ﷺ زيد بن حارثة
إسلام حِبه ﷺ زيد بن حارثة

هو زَيْدُ بن حَارِثَةَ بن شُرَحْبِيلَ، أبو أسامةَ، حِبُّ رسولِ اللَّهِ ﷺ، ومَوْلاه - والمَوْلَى: هو المَمْلُوكُ الذي أُعْتِقَ - كان لخديجةَ أوَّلًا، ف (...)

الدعوة السرية ذَهاب النبيِّ ﷺ والسيدة خديجة إلى ورقة
ذَهاب النبيِّ ﷺ والسيدة خديجة إلى ورقة

كان من كمال عقل السيدة خديجة – رضي الله عنها – أنها ذهبت إلى ورقةَ بنِ نَوْفلٍ دون غيره، فلم تذهب إلى كاهن أو خادم للأصنام، أو إلى حكيم من حكماء العرب (...)