مشاورة النبي ﷺ لأصحابه

إنَّ للشورى أهميةً كبيرة في حياة الأمم والشعوب؛ فبالشورى تنجلي الحقائق، وتتضافَر الآراء والجهود، وتتوزَّع المسؤولية، ويبدو التعاون والتناصُح، وتقوَى شوكةُ الأمة، وبالشورى تُبنى المجتمعات الفاضلة والدول القوية، وتُستمال القلوب، ويتعاون أهل الشورى مِن أجل بناء الأوطان، وعمارة الأرض، وإرضاء الله تعالى.

حكم مشاورة النبيِّ ﷺ:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَرْضِيَّةِ الْمُشَاوَرَةِ عَلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى سُنِّيَّتِهَا عَلَى غَيْرِهِ.

  •  قَال بَعْضُهُمْ بِفَرْضِيَّتِهَا عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} [آل عمران: 159]، وَقَال هَؤُلاَءِ: إِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ عَلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ تَطْيِيبًا لِلْقُلُوبِ، وَتَعْلِيمًا لِلنَّاسِ لِيَسْتَنُّوا بِهِ ﷺ.
  •  وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُشَاوَرَةَ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِ ﷺ لفقدان دَلِيلٍ يَصْلُحُ لإِثْبَاتِ الْفَرْضِيَّةِ، وَحَمَلُوا الأمْرَ فِي الآْيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الإرْشَادِ.

واخْتَلَف العلماء أيضًا فِيمَا يُشَاوِرُ فِيهِ ﷺ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشَاوِرُ فِيمَا نَزَل عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ.

  •  فَقَال فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: يُشَاوِرُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا؛ كَالْحُرُوبِ، وَمُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ؛ لأن اسْتِقْرَاءَ مَا شَاوَرَ فِيهِ الرَّسُول ﷺ أَصْحَابَهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
  •  وَقَال فَرِيقٌ آخَرُ: يُشَاوِرُ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَمَّا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي أُمُورِ الدِّينِ فَإِنَّ اسْتِشَارَتَهُ لَهُمْ تَكُونُ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى عِلَل الأحْكَامِ وَطَرِيقِ الاِجْتِهَادِ .

من فوائد الشورى:

قال السعدي في تفسيره (ص: 154): "{وشاورهم في الأمر}؛ أي: الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره:

منها: أن المشاورة من العبادات المتقرَّب بها إلى الله.

ومنها: أن فيها تسميحًا لخواطرهم، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس، إذا جمع أهل الرأي والفضل، وشاورهم في حادثة من الحوادث، اطمأنَّت نفوسهم وأحبُّوه، وعلموا أنه ليس بمستبِدٍّ عليهم؛ وإنما يَنظُر إلى المصلحة الكُلية العامَّة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته؛ لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبُّونه محبَّة صادقة، ولا يطيعونه، وإن أطاعوه فطاعة غير تامَّة.

ومنها: أن في الاستشارة تنوُّر الأفكار؛ بسبب إعمالها فيما وُضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.

ومنها: ما تُنتجه الاستشارة من الرأي المصيب، فإن المشاوِر لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتمَّ له مطلوب، فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله ﷺ - وهو أكمل الناس عقلًا، وأغزرهم علمًا، وأفضلهم رأيًا -: {وشاورهم في الأمر}، فكيف بغيره؟!

ثم قال تعالى: ﴿فإذا عزمت﴾ ؛ أي: على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه، إن كان يحتاج إلى استشارة، ﴿فتوكَّل على الله﴾ ؛ أي: اعتمد على حَول الله وقوَّته، متبرِّئًا من حَولك وقوَّتك، ﴿إن الله يحب المتوكلين﴾ عليه، اللاجئين إليه".


للاستزادة


  1. الخصائص الكبرى (3 / 257).
  2. نهاية المحتاج (6 / 175).

اخترنا لكم


خصائص الرسول ﷺ ما اختص به ﷺ من الأحكام التكليفية
ما اختص به ﷺ من الأحكام التكليفية

لقد كان للنبي ﷺ خصائصُ متنوِّعة لا يتأسَّى به المسلم فيها؛ حيث إنها خاصة بالنبيِّ ﷺ، وهناك اختصاصات له ﷺ من الأحكام التكليفية، والاختصاصاتُ التي اخْتُ (...)

خصائص الرسول ﷺ صور من مشاورة النبي ﷺ
صور من مشاورة النبي ﷺ

لِما للشورى مِن أهمية كبيرة في حياة الأمة؛ فقد أمر الله نبيَّه ﷺ بمُشاورة المؤمنين، فقال الله تعالى: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْ (...)

خصائص الرسول ﷺ خصائص الرسول ﷺ
خصائص الرسول ﷺ

لقد كان للنبي ﷺ خصائصُ لا يتأسَّى به المسلم فيها؛ حيث إنها خاصة بالنبيِّ ﷺ، وإن كان في بعضها خلاف بين العلماء من حيث التأسِّي به فيها أو عدمه، وسنذكر (...)

خصائص الرسول ﷺ مصابرة النبي ﷺ للعدو
مصابرة النبي ﷺ للعدو

لقد كان النبي ﷺ مصابرًا لأعدائه، فمنذ أن كلِّف بالرسالة، واجه الكافرين بالدعوة والجهاد، وكان أشدَّ منهم إصرارًا، وأعظم صبرًا، حتى بلَّغ الرسالة، وأدَّ (...)