لِما للشورى مِن أهمية كبيرة في حياة الأمة؛ فقد أمر الله نبيَّه ﷺ بمُشاورة المؤمنين، فقال الله تعالى: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي﴾ [آل عمران: 159].
وشاورهم في الأمر:
قال ابن كثير في تفسيره (2/ 149): "وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ﴾ ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْأَمْرِ إِذَا حَدَث؛ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ؛ لِيَكُونُوا فِيمَا يَفْعَلُونَهُ أَنْشَطَ لَهُمْ، كَمَا شَاوَرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الذَّهَابِ إِلَى الْعِيرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا عُرْض الْبَحْرِ لَقَطَعْنَاهُ مَعَكَ، وَلَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْك الغَمَاد لِسِرْنَا مَعَكَ، وَلَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، وَلَكِنْ نَقُولُ: اذْهَبْ، فَنَحْنُ مَعَكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ مُقَاتِلُونَ.
وَشَاوَرَهُمْ أَيْضًا أَيْنَ يَكُونُ الْمَنْزِلُ؟ حَتَّى أشار المنذر بن عمرو المعتق ليموتَ، بِالتَّقَدُّمِ إِلَى أَمَامِ الْقَوْمِ، وَشَاوَرَهُمْ فِي أُحُدٍ فِي أَنْ يَقْعُدَ فِي الْمَدِينَةِ أَوْ يَخْرُجَ إِلَى الْعَدْوِّ، فَأَشَارَ جمهُورُهم بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ.
وَشَاوَرَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي مُصَالَحَةِ الْأَحْزَابِ بِثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَامَئِذٍ، فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ السَعْدَان: سعدُ بْنُ مُعَاذٍ وسعدُ بْنُ عُبَادة، فَتَرَكَ ذَلِكَ.
وَشَاوَرَهُمْ يومَ الحُدَيبية فِي أَنْ يَمِيلَ عَلَى ذَرَاري الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُ الصِّدِّيق: إنا لم نجئ لِقِتَالِ أَحَدٍ؛ وَإِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، فَأَجَابَهُ إِلَى مَا قَالَ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ: "أشِيروا عَلَيَّ مَعْشَرَ الْمُسْلِمينَ فِي قَوْمٍ أبَنُوا أهلِي ورَمَوهم، وايْمُ اللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أهْلِي مِنْ سُوءٍ، وأبَنُوهم بمَنْ – واللهِ - مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا".
وَاسْتَشَارَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِي فِرَاقِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَكَانَ ﷺ يُشَاوِرُهُمْ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: هَلْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَوْ مِنْ بَابِ النَّدْبِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ".
صور من مشاورة النبي ﷺ لأصحابه:
لقد كان النبي ﷺ يُكثِر مِن مُشاورة أصحابه في قضايا الحرب والسِّلْم، وامتثل لأمر ربه تعالى بتطبيق الشورى تطبيقًا عمليًّا في كثير من المواقف والأحداث بصور وألوان شتَّى من الشورى، ولا يتسع المقام لذكرها؛ ولكنَّنا سنَذكُر بعض الأمثلة التي تُبيِّن تلك الصورَ المتنوِّعة في مُشاوَرات النبي ﷺ لأصحابه:
مشاورته ﷺ لعامَّة أصحابه:
- من ذلك ما وقَع يوم بدر عِندما خرَج للقاء القافلة العائدة مِن الشام فأفلتَتْ منه، وعَلم بخروج مُشركي قريش لحرْبه، فاستشار المسلمين الذين كانوا معه، فأشار عليه أبو بكر وعمر والمِقداد - رضي الله عنهم - ولكنَّ النبيَّ ﷺ كان يُريد الأنصارَ بهذه الاستِشارة؛ رغبةً منه في مَعرفة ما في نفوسهم، هل يُحارِبون معه خارج المدينة؟ أم يُحاربون معه داخل المدينة فقط؛ تطبيقًا لما بايَعوه عليه في العقَبة؟ فتبيَّن له، بعد أن فَطِنَ سيدُهم سعدُ بنُ معاذ مُرادَ النبي ﷺ أنهم معه في المدينة وخارجها، وأن روابط الإيمان الراسخ أقوى مِن روابط المعاهدات، وبذلك اتَّضح موقف الأنصار جليًّا للنبيِّ ﷺ وللمُهاجِرين الذين كانوا معه يومئذٍ، وكانت هذه الاستشارة للجَميع؛ ولكنَّها أُريد بها الأنصار. (انظر: سيرة ابن هشام (1/ 615)، و"دلائل النبوة" للبيهقي (3/34)).
- ومن ذلك ما وقع في غزوة أحد، عندما عَلِم النبي ﷺ أنَّ قريشًا قد جاءت لحرْبِه، ووصلت إلى مشارف المدينة، فاستشار أصحابه، وكان رأيه ﷺ الدِّفاعَ في المدينة عن المدينة؛ ولكن أغلبيَّة المسلمين - وخاصَّةً مَن فاتَهم القِتالُ في بدر - أرادوا الخروج إلى أُحُد ومُنازَلة المشركين هناك، فوافق النبيُّ ﷺ على رأي الأغلبيَّة، وقرَّر مُغادَرة المدينة والخروج إلى أُحُد، فكانت وقعة أُحُد. (انظر: سيرة ابن هشام (2/63)).
- ومن ذلك ما وقع في غزوة الأحزاب، عندما علم النبيُّ ﷺ أن قريشًا وحلفاءها وقبائل غطفان قد خرجت صَوب المدينة تريد غزوها واستئصال مَن فيها، فعقد النبي ﷺ مَجلِسًا استشاريًّا شاور فيه أصحابه حول خُطَّة الدِّفاع التي يَدفعون بها هذه الجيوشَ الجرَّارة، فأشار سلمان الفارسي - رضي الله عنه - بحفر الخَندق للحَيلولة دون دخول تلك الأحزاب إلى المدينة، فوافَق النبيُّ ﷺ على هذا الرأيِ وباشَر تطبيقه. (انظر: سيرة ابن هشام (2/224)، وأخبار الخلفاء لابن حبان (1/255)).
- ومن ذلك ما وقع في غزوة تبوك، عندما وصل النبيُّ ﷺ إلى تبوكَ وأقام بها عِشرين ليلةً، ولم يَلْقَ جيشَ الروم، استشار مَن معه من المسلمين في التقدُّم شمالاً من تبوك، فأشار عمر بن الخطاب بعدم التقدُّم؛ لإمكان الاصطدام بحشود الروم وحلفائهم المتفوِّقة على المسلمين بعُدَّتها وعَتادها، وأنَّهم بوصولهم إلى المكان الذي وصلوا إليه قد حصَل المقصود مِن إفزاع الروم، فقَبِل النبيُّ ﷺ مشورة عُمر ولم يتجاوزْ تبوك.(انظر: مغازي الواقدي (3/ 1019)، وسُبل الهُدى والرشاد في سيرة خير العباد (5/461)).
مشاورته ﷺ بعضَ أصحابه من أهل الأمانة والرأي والتخصُّص:
- من ذلك ما وقع في غزوة بدر، عندما وقَع في أيدي المسلمين سبعون أسيرًا من مُشركي قريش، فاستشار النبي ﷺ أبا بكر الصديق وعمرَ بنَ الخطَّاب - رضي الله عنهما - في هؤلاء الأسرى، فكان رأي أبي بكر الصديق المنَّ على الأسرى بعد أخْذ الفِديَة منهم، وكان رأيُ عُمر الفاروق قتْلَهم، فأخذ ﷺ برأي بكر الصديق رضي الله عنه. رواه مسلم.
- ومن ذلك ما وقع في غزوة حمراء الأَسَد عندما عَلم النبي ﷺ أن قريشًا قد أزمعت العودة بعد معركة أُحُد إلى المدينة، فطلَب النبي ﷺ من أبي بكر الصديق ومِن عُمر بن الخطاب المشورة، فأشارا عليه بالخروج إلى حمراء الأَسَد لِمُطارَدة المشركين؛ خوفًا من عودتهم إلى المدينة ثانيةً، ومُداهَمة أهلِها، فأخذ النبي ﷺ بمشورتهما، وخرَج بالمسلمين إلى حمراء الأسد. (انظر: مغازي الواقدي (1/326)، وسُبل الهُدى والرشاد في سيرة خير العباد (4/308)).
- ومن ذلك ما وقع في غزوة الأحزاب، عِندما كانت الأحزاب تُحاصِر المدينة وتُريد الانقِضاض عليها، فأراد النبي ﷺ أن يُصالح غطفان على شيء مِن ثمار المدينة؛ لِيَنسحِبوا مِن مُساندة الأحزاب، ويَتركوه يُواجِه قريشًا وحدها، فاستشار النبي ﷺ سعدَ بن معاذ وسعدَ بن عُبادة في هذا الأمر، فأشارا عليه بعدم إعطائهم شيئًا، فأخَذ النبي ﷺ بمشورَتِهما. (انظر: المعجم الكبير للطبراني (6/ 28)، وسيرة ابن هشام (2/223)).
مشاورة خاصَّة لبعض أصحابه ﷺ:
من ذلك ما وقع في حادِثة الإفك، عندما رُميت الطاهرة العفيفة أمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بما رُميت به، وأبطأ الوحيُ، دعا رسول الله ﷺ عليَّ بن أبي طالب، وأسامةَ بنَ زيد؛ يَستشيرهُما في فِراق أهله، فأمَّا أسامة، فقال: أهلُكَ يا رسول الله، ولا نعلم واللهِ إلا خيرًا، وأما عليُ بنُ أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يُضيِّقِ الله عليك، والنِّساء سواها كثير، وسلِ الجارِيَةَ تَصدُقْك، فدعا رسول الله ﷺ بَريرةَ، فقال: ((يا بريرةُ، هل رأيتِ فيها شيئًا يَريبُك؟))، فقالت بريرة: "لا والذي بعثك بالحق، إنْ رأيتُ منها أمرًا أَغمِصه عليها قطُّ، أكثر مِن أنَّها جارية حديثة السنِّ، تَنام عن العجين، فتأتي الداجِن فتأكُلُه"، فقام رسول الله ﷺ مِن يَومِه، فاستَعذرَ مِن عبدالله بن أُبيِّ بن سلولَ. رواه البخاري.
فعليُّ بن أبي طالِب ابن عمِّه ﷺ ومِن أهلِه، وأسامة بن زيد مولاه وحِبُّه وابن حِبِّه، فاستشارهما في هذه القضية الأُسرية؛ حيث إنهما مِن أسرَتِه وخاصَّته.
مشاورته ﷺ لفرد من أصحابه:
من ذلك ما وقع في غزوة الطائف، عندما حاصر النبي ﷺ أهلَ الطائف في حِصنهم ولم يتمكَّن مِن فتْحِه، استشار نوفلَ بنَ معاويةَ الديليَّ فقال: ((يا نوفلُ، ما تقول أو ترى؟))، فقال نوفل: "يا رسول الله، ثعلب في جُحرٍ، إنْ أقمْتَ عليه أخذته، وإن تَركتَه لم يَضرَّك شيئًا"، فأمر رسول الله ﷺ عُمر وأذَّن في الناس بالرَّحيل. (انظر: مغازي الواقدي (3/937)).