عَزَمت قُريش أن يُجَهِّزُوا عِيرًا إلى الشَّامِ بِتِجَارَاتٍ وأموال عِظَام، وعزم أَبُو طَالِبٍ المَسِيرَ في تلك العِير، وأراد النبيُّ ﷺ مرافقة عمِّه أبي طالب، فرَقَّ له عمُّه، إلا أن عُمُومَتُهُ وَعَمَّاتُهُ خافوا عليه، فقالوا لِأَبِي طَالِبٍ: مِثْلُ هَذَا الْغُلَامِ لَا يُخْرَجُ بِهِ تعرِّضه للأخطار وَالْأَوْبَاءِ، فهَمَّ أَبُو طَالِبٍ بِتَخْلِيفِهِ، فرآه يبكي، قال: ما لك يا ابْنَ أَخِي؟ لَعَلَّ بُكَاءَكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي أُرِيدُ أَنْ أخلِّفَكَ؟ فقَال النبيُّ ﷺ: نعَمْ، فقَالَ أَبُو طَالِبٍ: فَإِنِّي لَا أُفَارِقُكَ أَبَدًا، فَاخْرُجْ مَعِي.
سفر النَّبِيِّ ﷺ مع عمِّه إلى الشام وقصة بَحِيرا الراهب:
رَوَى التِّرْمِذِيُّ (3948) عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ –يَعْنِي: بَحِيرَا - هَبَطُوا، فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ - وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ، فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، ولا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ - وَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ العَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟
قَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ العَقَبَةِ – العقبة: الطَّرِيقُ في الجَبَل - لَمْ تَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، ولَا يَسْجُدَانِ إلَّا لِنَبِيٍّ، وإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أتَاهُمْ بِهِ، وكَانَ هُوَ –أَي: الرَّسُولُ ﷺ - فِي رِعْيَةِ الإِبِلِ، قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ –أيْ: إِلَى الرَّسُولِ ﷺ- فَأَقْبَلَ ﷺ وعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ القَوْمِ، وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ – أي: ظلِّ- الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ رسُولُ الله ﷺ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فقَالَ بَحِيرَا: انْظُرُوا إِلَي فَيْءَ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِم عَلَيْهِمْ، وهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لَا يَذْهَبُوا بهِ إِلَى الرُّومِ؛ فَإِنَّ الرُّومَ إِنْ رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ، فقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟
قَالُوا: جِئْنَا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ في هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيق إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ، وإنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ، فَبُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا، فقَالَ: هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ؟
قالُوا: إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا.
قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ، هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ؟
قالُوا: لَا، قَالَ: فَبَايَعُوهُ، وأَقَامُوا مَعَهُ عِنْدَهُ.
قَالَ: فَقَالَ الرَّاهِبُ بَحِيرَا: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَيكُّمْ وَليُّهُ؟
قال أَبُو طَالِبٍ: فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وبَعَثَ مَعَهُ أبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الكَعْكِ والزَّيْتِ".
وهذا الحديث حسنه الترمذيُّ، وصَحَّحَهُ ابن حجر في "الإِصَابَةِ"، والحَاكِمُ، والأَلْبَانِيُّ، وقد رواه ابن إسحاق بنحو هذا السياق بدون سند، دون ذكر أبي بكر وبلال – رضي الله عنهما – وهي اللفظة المشكلة في هذا الحديث، فَيُسْتَأْنَسُ بِرِوَايَتِهِ لِإِمَامَتِهِ في المَغَازِي.
أتى في "شرح المواهب" (1/ 376) قَالَ ابن حجر: "الحَدِيثُ رجَالُهُ ثِقَاتٌ، ولَيْسَ فِيهِ مُنْكَرٌ سِوَى هَذِهِ اللَّفْظَة -وهِيَ ذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَتُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا مُدْرَجَةٌ فِيهِ، مُقْتَطَعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ، وَهْمًا مِنْ أَحَدِ رُواتِهِ".
وَقَالَ ابنُ القَيِّم في "زاد المعاد" (1/ 75): "وَقَعَ فِي كتَابِ التِّرْمِذِيِّ وغَيْرِهِ أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُ بِلَالًا -رضي اللَّه عنه- وهُوَ مِنَ الغَلَطِ الوَاضِحِ؛ فإِنَّ بِلَالًا -رضي اللَّه عنه- إِذْ ذَاكَ لَعَلَّهُ لَمْ يَكُن مَوْجُودًا، وإنْ كَانَ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَ عَمِّهِ، وَلَا مَع أَبِي بَكْرٍ رضي اللَّه عنه".
